إميل أمين

منذ أن كتب الأكاديمي والمذيع البريطاني الشهير نايجل هاملتون كتابه البديع «القياصرة الأميركيون»، الذي استلهم روحه من كتاب مؤرخ الإمبراطورية الرومانية الكبير سويتونيوس «الاثنا عشر قيصًرا»، والمقاربات لا تتوقف بين روما القديمة من جهة وواشنطن الحديثة من ناحية أخرى، وبين الأباطرة الرومان في جانب، والرؤساء الأميركيين على الشاطئ المقابل.

حديًثا دعا بيل غيتس رجل «مايكروسوفت» الأشهر، الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لأن يقتدي بهدي سلفه الرئيس الأميركي جون كيندي «الذي اعتمد في بدايات ولايته خطاًبا ملهًما، للأمم والشعوب».

بيل غيتس أشار في مقابلة له مع قناة «إن بي سي» الأميركية إلى أن كيندي تحدث عن مهمة الولايات المتحدة في القيادة والريادة العالمية من أجل استكشاف الفضاء، وعليه، فإنه يمكن للرئيس ترمب أن يستهل رئاسته بأهداف عولمية إنسانية خلاقة، سواء كان الأمر يتعلق بالتربية والتعليم حول العالم، أو القضاء على الأمراض المتوطنة التي تفتك بملايين الفقراء.

والشاهد أن بيل غيتس لفت نظر الباحثين في الشأن الأميركي للرئيس الكاثوليكي الوحيد في التاريخ الأميركي، جون فيتنرجيرالد كيندي، وفلسفته التي استهل بها رئاسته، والتي مكنت له لاحًقا وضمنت مكاًنا واضًحا في سجل القياصرة.

في خطاب القسم قال كيندي: «فليسمع الأصدقاء والأعداء على السواء الكلام الذي أقوله من علياء هذا المنبر في هذا الوقت، أن الشعلة انتقلت إلى جيل أميركي جديد، ولد في هذا العصر واستبقى دروًسا صعبة من خلال الحرب وتعلم الانضباط من السلام المر الذي أحله بصعوبة، جيل فخور بميراثنا العتيق وغير مستعد للشهادة على سقوط حقوق الإنسان تدريجًيا أو السماح به، وهي التي لطالما التزم بها البلد والتي نلتزم بها اليوم على النطاقين المحلي والعالمي».

كانت أول ترجمة حقيقية قام بها كيندي لخطابه على أرض الواقع، لا سيما أن الشعب الأميركي والعالم انتظرا منه الكثير، لكونه جاء باسم الجيل الجديد، أنه وفي مارس (آذار) من عام 1961، أي بعد بضعة أسابيع من انتخابه، حقق أول إنجاز لإدارته الجديدة، وهو تأسيس فرق السلام، ذلك البرنامج التطوعي لإرسال الشباب الأميركي إلى الخارج لمساعدة بلدان العالم الثالث خصوًصا، وبذلك استفاد الرئيس الجديد من الحس المثالي الذي كان يتمتع به الجيل الأميركي الشاب في ذلك الوقت.

جسدت فرق السلام بحسب هاملتون أفضل عنصر والأكثر إلهاًما في شخصية الرئيس الجديد في واشنطن، بحيث غدا البيت الأبيض بسرعة من خلال أعضائه الجدد «الأفضل والألمع».

في ذلك الوقت، انتشرت فرق السلام في دول العالم الثاني والثالث من دون أسلحة، فكانت أفضل أداة للترويج لنموذج الإمبراطورية الأميركية المقبلة لتوازي نظيرتها الرومانية، عبر أدوات القوة الناعمة، ومثال المدينة فوق جبل، وتطبيًقا إيجابًيا للاستثنائية الأميركية الخلاقة، ولهذا لم يكن من المثير أو العجيب أن يلقى النموذج الأميركي، بحسب كيندي، رواًجا وقبولاً في العالم قاطبة.

هل خلت سنوات كيندي الثلاث من خيار القوة؟
بالطبع كانت أيامه شاهدًة على أخطر اللحظات التي مرت بالبشرية في القرن العشرين، ولولا مسحة من حكمة لعرف العالم الشتاء النووي قبل 5 عقود إثر أزمة صواريخ كوبا.

في اللحظات الحالكة السواد، حين كان خروشوف يحضر صواريخه النووية في غلظة وخشونة تليق بقروي الأصل والجذور مثله، كان كيندي رفيع التعليم والتنشئة والمتلقي لعلم الكلام في المدارس الكاثوليكية ذات الاختصاص، يخاطب العالم بالقول: «لا يكمن هدفنا في انتصار القوة، بل في الدفاع عن الحق. هدفنا ليس إحلال السلام على حساب الحرية، بل إحلال الاثنين مًعا على هذا الجزء من الأرض، ونأمل إحلاله على كل الأرض. وإن شاء الله سيتحقق هذا الهدف».

لم يكن اختيار بيل غيتس لكيندي دون الرؤساء الأميركيين المرموقين في العقود السبعة الماضية عشوائًيا، فقد كان الرجل مرآة لأميركا الإمبراطورية المرحب بها، قائدة العالم الحر، التي تقوم على مقدرات القيادة الديمقراطية، لا الساعية إلى الهيمنة من خلال رؤى المحافظين الجدد للقرن الأميركي عبر الوثيقة الشهيرة PNAC في نهاية التسعينات أو استراتيجية الاستدارة نحو آسيا في أوائل القرن الحادي والعشرين، التي هي دون مواربة إعلان حرب تجاه روسيا والصين، والأخيرة بنوع خاص.

هل سيدعم الأميركيون اليوم انعزالية ترمب والتمترس وراء المحيطين؟ أم سيعمدون إلى معين كيندي الحضاري للإمبراطورية الأميركية بمفهومها الإيجابي والخلاق؟

قد يكون من المبكر التوصل إلى جواب شاٍف واٍف قبل مرور المائة يوم الأولى لحكم ترمب، غير أن طيف كيندي ومثال أميركا المنخرطة حول العالم كحارس للديمقراطية والحرية، لا كشرطي غليظ الرقبة يفرضها قسًرا على العالم، يبدو أنه يداعب مخيلة كثير من ملايين الأميركيين.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لم تشح الولايات المتحدة بنظرها عن القيادة الدولية كما فعلت لدى انتهاء الحرب العالمية الأولى، إنما أدت دور الحارس الدائم لحلفائها وللدول التي تبنت الديمقراطية، ومن هنا اندثر نهج الانعزالية السياسية وحاولت واشنطن الحفاظ على زمن السلام الأميركي (Paxa Americana)، واليوم والعالم على شفا مولد نظام عالمي غير واضح المعالم، القديم فيه ينزوي، والجديد يكافح من أجل الظهور، تستحق أميركا قيصًرا مميًزا يتسم بالانفتاح الخلاق على الأمم والشعوب ويأخذ بأيدي «منكسري القلوب» في طريق النماء والازدهار، العدالة والسلام، المساواة والإخاء.... هل هو حلم يوتوبي طهراني؟ ما هذا على
الله بعزيز.