عادل درويش

استغلال الساسة للصحافة سلاح ذو حدين كما أظهر مؤتمران صحافيان، للرئيس دونالد ترمب الخميس في واشنطن، وتوني بلير في لندن الجمعة.
أقصد بالصحافة محيطات الاتصال: مقروءة، مسموعة، مرئية، مؤسساتية وفردية، وتواصلاً اجتماعيًا، واليوم تشمل الاستعراضات الكوميدية خاصة في مسيرات الشارع والمهرجانات، ومؤسسة الترفيه والفنون والطرب، فالأوروبية والهوليوودية منها مستمرة في «حملة جهاد» ضد الرئيس الأميركي المنتخب ديمقراطيًا.
مؤتمر ترمب الصحافي كان غير معتاد في تعامل السياسي مع الصحافيين. لكن ترمب ليس سياسيًا؛ وهو ليس سبب تحول اللقاءات الصحافية إلى معارك كلامية بين الطرفين فحسب، بل أيضًا وراء إعجاب الفئات الشعبية به كبطلها المنقذ من مستنقع اقتصادي اجتماعي أغرقتها فيه المؤسسة الحاكمة التي يرونها في وسائل الصحافة والمسيرات والمهرجانات ووسائل الفنون التي ذكرتها أعلاه.
ترمب شخصية غير سياسية، لا ينتمي للمؤسسة «الصحافية» التي فقدت الفئات الشعبية الثقة بها.
فهل تصرف ترمب بسذاجة في المؤتمر الصحافي، أم تعمد أن يظهر أمام العالم الخارجي مدى استهدافه من مؤسسات صحافية بالغة القوة، ويراها الناخب، خاصة مؤيديه، فاسدة؟
هناك قول «لو اجتمع مائة فارس على عريان ما استطاعوا أن يسلبوه شيئا». ترمب واجه صحافة جردته من ملابسه السياسية قبل انتخابه فماذا يخسره من كرات جديدة لها؟
القول championing the under dog أو الانتصار للخاسر في معركة غير متكافئة؛ إرث من الثقافة الأنغلوساكسونية ترسب في الوجدان الأميركي.
أسئلة الصحافة، ركزت كلها على، استقالة مايكل فلين، رئيس وكالة الأمن القومي بعد تسجيل المخابرات الأميركية مكالمة له مع السفير الروسي، وعلى علاقة ترمب ومعاونيه بروسيا التي لها سفينة حربية على بعد 70 ميلا من شواطئ أميركا (أي التشكيك في وطنيته، فالصحافة نفسها شيطنت الزعيم الروسي فلاديمير بوتين).
من القضايا الملحة يوم المؤتمر: تحرك وول ستريت وسوق المال كرد فعل لسياسات ترمب؛ خطر تطوير كوريا الشمالية لصاروخ من منصات متحركة بوقود جاف يستحيل كشفه قبل إطلاقه؛ الاضطراب حول سياسة حل الدولتين بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ الأزمة مع أعضاء حلف شمال الأطلسي بعد التهديد بتخفيض الميزانية.
لم يسأل الصحافيون عن أي من هذه القضايا مما دفع ترمب إلى تكرار اتهاماته بأن الصحافة التقليدية في حملة ضده بدلاً من طرح أسئلة يريد الناس إجابات عنها.
«بي بي سي» خدمة عامة ممولة من الشعب عبر رسم (يساوي 146 جنيهًا إسترلينيًا) يدفعه كل بيت إجباريًا. عندما تتاح لصحافي فرصة توجيه سؤال لزعيم أهم وأقوى بلد في العالم، بديهي أن يكون أهم ما يشغل بال قرائه أو مستمعيه أو مشاهديه.
أولويات البريطانيين دافعي رسم «بي بي سي»، حسب استطلاعات رأي وكالة موري عقب زيارة رئيسة الوزراء لواشنطن: هل يمكن الثقة بترمب في توقيع اتفاقية تجارة مع لندن تقوي من موقفها في المفاوضات مع بروكسل؟ هل تخفض أميركا تمويلها لحلف الأطلسي وهل سيزيد ذلك من أعباء بريطانيا اقتصاديًا ويؤثر على أمنها؟ مسألة التحالف في محاربة الإرهاب والتعاون الأمني الاستخباراتي وهل تشترك قوات بريطانية في حالة نشر قوات أميركية في سوريا؟ الموقف من التوتر مع روسيا الذي أدى لنشر قوات بريطانية في البلقان؟
عندما جاء الدور على مراسل «بي بي سي»، لم يطرح أيًا من هذه الأسئلة واستمر مع بقية بقية المراسلين في محاولة إحراج ترمب بسؤاله أن المحكمة علقت قراره الإداري بشأن الهجرة، وأنه وعد بإصدار قرار بديل فلماذا لم يصدره بعد (أذكر القراء أن «بي بي سي» قادت الحملة الأخلاقية لإدانة ترمب واتهمته بالعنصرية والإسلاموفوبيا لإصداره القرار الإداري الموقوف، لكن مراسلها يلومه على عدم إصدار قرار آخر بديل للاستمرار في منع المهاجرين من الدخول)!
بعد 15 ساعة من مؤتمر ترمب الصحافي عقد توني بلير مؤتمرًا صحافيًا في مقر بلومبيرغ بلندن.
قال ما معناه: المصوتون بالخروج من الاتحاد الأوروبي (17 مليونًا و400 ألف) تم تضليلهم وأنهم لم يعوا الحقائق، ودعا الشعب إلى «الانتفاض» لمنع الخروج (البريكست) وتأسيس تحالف لهذا الغرض.
في اليوم نفسه أشارت استطلاعات الرأي إلى أن 68 في المائة من البريطانيين يلحون على الحكومة بالإسراع بالخروج من الاتحاد الأوروبي (كانت 52.3 في المائة فقط في الاستفتاء).
بلير، مع النخبة التي تدير المؤسسة الصحافية في وادٍ و68 في المائة من الشعب (والأميركيون الذين انتخبوا ترمب) في وادٍ آخر.
وزير الخارجية الخفيف الظل بوريس جونسون رد على بلير بـpun أي «قفشة» تدوير الألفاظ له دليل رمزي عنونته للمقال «نعم يجب على الشعب أن ينتفض من مقاعده ليطفئ جهاز التلفزيون عندما يظهر توني بلير ليهين ذكاء الشعب».
في تبادل اتهامات بين مقدم «سهرة الأنباء» في «بي بي سي»، ومستشار ترمب الدكتور سباستيان غوركا، ختمها الأخير بقوله «استمروا في حملتكم... سننهي احتكاركم للمعلومات وسنخاطب الناس مباشرة».
«تويتر» هو التلغراف المباشر الذي يرسله ترمب للشعب. قاعدته الشعبية من المهمشين لا تثق في المؤسسات الصحافية.
بعد 48 ساعة فقط من مؤتمره الصحافي التقى ترمب بآلاف من مؤيديه ومعجبيه في تظاهرة شعبية حاشدة في فلوريدا. المنظم كان فريق حملته الانتخابية، لا المكتب الصحافي للبيت الأبيض، ظاهرة غير مسبوقة في السياسة الأميركية أن رئيسًا بعد انتخابه، يعود إلى أسلوب الحملة الانتخابية وليس العمل عبر المؤسسات الديمقراطية.
توني بلير، الذي يمتطي المؤسسة التقليدية ليثرى كمستشار عالمي (لبعض أنظمة ديكتاتورية) هو الوجه الآخر لعملة ترمب. بلير يتوجه مباشرة للناس داعيًا لهم للانتفاض ضد الخيار الديمقراطي.
بلير يعمل بدهاء سياسة مكيافيللية يفتقرها ترمب الذي تحرك مباشرة بعفوية رجل أعمال حوّل الصحافة التقليدية كلها ضده. بلير داهية يدرك أن الصحافة الليبرالية اليسارية (الغارديان، الفاينانشيال تايمز، كل الصحف الأوروبية الكبرى والأميركية المشهورة) وكل الشبكات التلفزيونية مثله، تقف في خندق الثورة المضادة التي تسعى لعرقلة الخيار الديمقراطي للشعب بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
تخلي الصحافة عن الحياد والدخول في معارك بغرور المثقفين المتجاهلين لهموم الشعب فيهما خطر فقدان ثقة الشعب الذي سيتجه للتيارات الغوغائية التي تستغلها الحركات الفاشية المعادية للديمقراطية.
سخر الناس من بلير بنكتة «تصويت البريكست أدى لانقسام الشعب، وظهور بلير في التلفزيون أدى إلى توحيد الشعب... ضده».
انتخاب ترمب... الاستفتاء على أوروبا... وأخطاء الصحافة تعني انتفاضة إطفاء التلفزيون عندما يظهر السياسي الذي يمثل كل ما لا يثق رجل الشارع به.. .