ايلي الحاج

 بعد أقل من مئة سنة على إعلان "دولة لبنان الكبير" يحمل على الذهول مدى استمرار المسائل نفسها مطروحة على البحث في هذا اللبنان الذي لم يهدأ إلا مرحلياً مدى القرن الفائت، ودوماً على مضض من بعض أطراف شعبه.

أنقذ جنوب لبنان وجزءاً من بقاعه من مصير هضبة الجولان السوري والضفة الغربية اللذين وقعا في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، إصرارٌ لم يكن يكلّ ولا يمل خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها في عشرينيات القرن الماضي، حملته مجموعة من النخب المسيحية اللبنانية مع البطريركية المارونية على مدّ حدود لبنان جنوباً حتى نقطة راس الناقورة جنوباً وسفوح جبل الشيخ شرقاً، حين أن رئيس الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل لاحقاً حاييم وايزمن مدعوماً من مراكز قوى في بريطانيا كان يحض ويطالب تكراراً في مذكرات محفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية على مدّ حدود فلسطين لتصل إلى نهر الليطاني جنوباً، وإلى خط سكة حديد بيروت – دمشق جنوباً. لسخرية القدر كانت الشخصيات السياسية والاجتماعية المُسلمة السُنية في بيروت ترفض قطعاً الرضوخ باسم القومية العربية والأمة الإسلامية، بتعابير تلك الأيام، لقرار إلحاق بيروت وصيدا وطرابلس والأقضية الأربعة بلبنان الكبير.
ومراراً أنقذت جنوب لبنان حكمة رئاسات العهود، وأبعدت عنه بحنكتها وبضغط النخب المسيحية خصوصا،ً خطر الانسياق إلى حروب أوصلت الدول المجاورة إلى خسارة أجزاء واسعة من أراضيها، لا سيما خلال حرب الأيام الستة في 1967 التي انزلق إليها ملك الأردن الراحل حسين من دون أن يكون مطلعاً على المآل الحقيقي للحرب على الجبهة المصرية في أيامها الثلاثة الأولى، حيث حمل ثقل الهزيمة وخسارة سيناء الزعيم جمال عبد الناصر على الاستقالة، ليعود عنها نزولاً عند إرادة الجماهير التي نزلت إلى الشارع . لم تعد سيناء إلى مصر إلا بمعاهدة سلام. لكن النفوس كانت تغلي في مناطق وفئات من لبنان تتمنى وتضغط ليشارك الجيش اللبناني على نطاق أوسع وبوضوح في المواجهة الحربية مع إسرائيل، ولا تتمترس الدولة في وضعية مساندة سبق أن اتفق عليها الرئيس الأسبق فؤاد شهاب مع الرئيس عبد الناصر.
حمى اتفاق الهدنة والجيش حدود لبنان، رغم خروق واعتداءات إسرائيلية تفاقمت مع انطلاق مؤشرات متلاحقة إلى انهيار الدولة اللبنانية أواخر الستينيات، وبدأ أهل الجنوب بدفع أثمان غالية جداً من حياتهم وأرزاقهم. وبعدما سيطرت"المقاومة الفلسطينية" على الجزء الأوسع من الجنوب بين 1975 و1976 مدعومة من تنظيمات إسلامية ويسارية، كان لا بد أن يأتي يوم تحتل فيه إسرائيل الجنوب بكامله وتبقى في أجزاء منه إلى أن فرضت التطورات العسكرية والسياسية عليها الانسحاب والقبول بتطبيق القرار الدولي 425. كانت "المقاومة الإسلامية" التي قامت على ركام "جبهة المقاومة الوطنية" وأنزلت بضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده خسائر فادحة عاملاً مهماً في قرار الانسحاب بدون اتفاق سلام مع لبنان، لكن المبالغة اليوم في قدرة هذه "المقاومة الإسلامية" على حفظ أمن الحدود وإبقاء لبنان في منأى عن الخطر الإسرائيلي لا تقنع دول العالم الحريصة على لبنان، ولا الجزء الأكبر من المواطنين اللبنانيين. المفارقة أن المسلمين السُنّة الذين أيدوا "المقاومة الفلسطينية" هم الذين باتوا – بغالبيتهم إذ لا يمكن التعميم على أي فئة أو طائفة- يدافعون عن الحق الحصري للجيش اللبناني في اقتناء السلاح واستخدامه شرطاً لقيام الدولة في لبنان، بينما تسير فئة لا يُستهان بحجمها الكبير عند المسيحيين بمنطق أن سلاح "حزب الله" هو قوة مكملة للجيش اللبناني.
وفي الأيام الماضية سمع مسؤولون كبار في الدولة أسئلة من ديبلوماسيين ومسؤولين بارزين في دول غربية فحواها "ما الذي حصل؟ نحن أيدنا ملء الفراغ الرئاسي، وأبواب السعودية ومصر وقطر والأردن فُتحت أمام العهد الجديد وتابعنا مواقف جيدة ومتوازنة. لماذا كان هذا الانقلاب؟ اشرحوا لنا رجاء"".
كانت الأجوبة الرسمية التي حملها هؤلاء إلى عواصم بلدانهم أن لا شيء تغيّر، وموقف لبنان الرسمي أنه يتمسك بالقرار 1701 ولا مجال للتراجع عن هذا الموقف. والأفضل عدم التركيز على ما حصل وإمراره بأقل ضجة. ولكن من يزيل الانطباع أن المسيحيين تخلوا عن دورهم التاريخي في الدفاع عن وطنهم ومصالحه، وأن ثمة تبادلاً للأدوار حصل بينهم وبين المسلمين السُنّة خصوصاً بعد 100 سنة على "لبنان الكبير"؟