أمير طاهري

في الوقت الذي توشك فيه معركة الموصل على دخول مرحلة الحسم، يواجه القادة العراقيون عددًا من الأمور المؤكدة، وكذلك من الأمور المشكوك فيها.
أول أمر مؤكد هو أن تنظيم داعش، من منظور عسكري بحت، لا يستطيع الحفاظ على سيطرته أكثر من ذلك على القسم الغربي من الموصل. أما الأمر المؤكد الثاني، فهو أن تأمل الهزيمة الوشيكة لمقاتلي «داعش» المتطرفين المتشددين يشير إلى أنهم سينسحبون إلى سوريا، حيث يمكنهم إعادة تحصنهم، ومواصلة أعمالهم العنيفة المميتة لأشهر، لا لسنوات.
منذ البداية، كان هناك اتفاق على عدم الاعتداء بين «داعش» ونظام الأسد، وداعميه الإيرانيين. وحاول الرئيس بشار الأسد، خلال مقابلة مع التلفزيون الفرنسي، في بداية الشهر الحالي، تفادي الحديث عن تلك المسألة الشائكة من خلال الالتفاف عليها، وزعم أن هدفه هو «تحرير كل شبر من الأراضي السورية»، مع منح الأولوية لاستعادة الأراضي التي لا تخضع لسيطرة تنظيم داعش. والأمر المؤكد الآخر هو عزم الولايات المتحدة، تحت قيادة الإدارة الجديدة، على المساعدة في تدمير تنظيم داعش. ويعد هذا تطورًا مهمًا يضع نهاية للأداء الباهت التمثيلي للرئيس باراك أوباما، حيث كان هدف زيارة جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأميركي الجديد، للعراق خلال الأسبوع الماضي هو الإشارة إلى حدوث تغيير كبير في الاستراتيجية الأميركية.
كان استثمار الولايات المتحدة، أثناء فترة حكم أوباما، في القتال ضد تنظيم داعش شحيحًا جدًا، حيث أراد أوباما أن يبدو وكأنه يقاتل «عدو البشرية»، بأقل قدر ممكن من الالتزام من جانبه. وكان من الضروري الحصول على تصريحه لاستخدام القوة الجوية الأميركية في المعارك المستمرة، وهي عملية كانت كثيرًا ما تستغرق وقتًا طويلاً لا يجعلها مجدية ونافعة للقوات العراقية البرية المشاركة في القتال.
يمكن لتنظيم داعش الاعتماد على أمر مؤكد آخر، وهو تفضيل أنقرة قتال الأكراد في سوريا على قتال الجماعات المسلحة من العرب السنّة.
وتم توسيع نطاق اتفاق عدم الاعتداء بين تنظيم داعش من جانب، ونظام الأسد وداعميه الإيرانيين من جانب آخر، خلال الأشهر القليلة الماضية، ليشمل روسيا أيضًا. من المرجح أن يواصل المثلث، الذي تتكون أضلاعه من روسيا وإيران والأسد، التركيز على قتال الجماعات المناهضة للنظام، عوضًا عن قتال تنظيم داعش، مما يتيح لتنظيم داعش الحفاظ على وجوده، وبقائه في سوريا.
لذا حتى عندما يتم طرد «داعش» من الموصل، ستظل ماكينة إرهاب «داعش» باقية، إلى جوار العراق على الجانب الآخر من الحدود في سوريا. وربما تتحول إلى مدخل للاستفزاز والإرهاب قد يتجاهله القادة العراقيون، مما يشكل خطرًا عليهم. قد يكون النصر العسكري الذي تم إحرازه في الموصل، ورفع العلم العراقي الوطني بدلاً من راية تنظيم داعش السوداء في المدينة، هو الجزء الأسهل من لعبة معقدة وخطيرة.
على الجانب الآخر، هناك عدة أمور مشكوك فيها قد تحول أي نصر إلى انتصار مؤقت، إن لم يكن باهظ الثمن. يتعلق أول أمر مشكوك فيه بالطريقة التي يتم بها تقاسم غنائم النصر. تعتزم الجماعات المسلحة الشيعية الكثيرة، التي شاركت في أجزاء من المعركة، المطالبة بأكبر حصة ممكنة من الغنائم، وإذا حصلت على حصة أكبر مما تستحق يمكن أن تتسبب في انتقام من جانب السكان السنّة الذين يشعرون بالمهانة، وذلك بدلاً من وضع نهاية للحرب.
قد يزداد ذلك الشعور عمقًا، إذا حاولت الجمهورية الإسلامية في إيران الحصول على حصة أكبر تتجاوز الصور الذاتية الاعتيادية للجنرال قاسم سليماني في ماديسون أفينيو. كذلك هناك الأكراد الذين ينقسمون إلى جماعات مختلفة، لكل منها جدول أعمال خاص بها، وإن كان القاسم المشترك الذي يجمع بينها هو أن أيًا منها لا يتضمن مفهوم الدولة العراقية.
أخيرًا، تتضمن الصورة أيضًا القوات الرسمية العراقية المتعددة، وأبرزها ما تسمى بالفرقة الذهبية، حيث تسعى تلك القوات لتأكيد مكانتها البارزة، أملاً في الاضطلاع بدور أكبر في أي ترتيب سياسي مفترض في بغداد.
وهناك أمر مشكوك فيه آخر، هو هوية الطرف الذي سينسب إليه تحقيق الانتصار في الموصل، فالانتصار في حرب ضد تنظيم داعش باسم العراق كدولة موحدة أمر، وتحقيق نصر باسم ائتلاف يتكون من قوى عرقية وطائفية مختلفة، بل ومتناحرة أحيانًا، أمر آخر. وقد لا يكون المرء مبالغًا إن أشار إلى أن النصر الصحيح في الموصل سيمثل ميلادًا جديدًا للعراق كدولة، في حين أن النصر الخاطئ سيمثل نهاية للعراق ككيان موحد.
وتكشف التسريبات الأخيرة في واشنطن أن إدارة أوباما كانت تعتمد في واقع الأمر على حدوث نصر خاطئ يؤدي إلى انقسام العراق إلى دويلات، وهي خطة كان يروّج لها، منذ تسعينات القرن الماضي، جو بايدن نائب الرئيس الأميركي السابق.
مع ذلك، يظل أهم أمر مشكوك فيه هو المخاوف مما قد يحدث بعد معركة الموصل، حتى بفرض تمكّن القادة العراقيين من التغلب على المخاطر الناجمة عن تقاسم غنائم النصر. الخطاب السائد في بغداد، والمنتشر في جميع أنحاء العالم، هو أن تنظيم داعش يتكون من بضعة آلاف من «الأجانب»، أي أنهم أفراد متعصبون من جنسيات غير عراقية، قدموا من مختلف أنحاء العالم لظلم واضطهاد الناس في الموصل. ويشبه هذا زعم بشار الأسد بشأن كل خصومه في سوريا.
مع ذلك، الواقع أكثر تعقيدًا من ذلك.
بطبيعة الحال، هناك آلاف الأشرار الذين أتوا إلى العراق وسوريا، لتنفيذ مخططاتهم الإجرامية باسم الإسلام، لكن من السذاجة أن نعتقد أنهم فقط هم المتورطون في صراع كبير على تشكيل مستقبل العراق وسوريا، إن لم يكن منطقة الشرق الأوسط بأكملها. الحقيقة هي أن جزءًا كبيرًا من سكان الموصل كان مستاءً من الحكومة في بغداد، إلى حد جعلهم يتسامحون مع تنظيم داعش، بل ويساعدونه أحيانًا، على أساس أنه أهون الشرين. يمثل هذا القطاع من السكان، الذي يشمل فلول نظام البعث، وجيش صدام حسين، والأجهزة المدنية والأمنية التي كانت تابعة له، المستنقع الذي تتكاثر فيه حشرات الإرهاب التي يمكن أن تظل تتكاثر في المستقبل.
ينبغي أن تتضمن أي استراتيجية للتعامل مع وضع «ما بعد معركة الموصل» خطة واقعية لطرد الإرهابيين من غير العراقيين، والكثير منهم مواطنون من دول أوروبا الغربية، وروسيا، انضموا إلى تنظيم داعش. مع ذلك، يجب أن تشمل أيضًا خططًا لدمج المسلمين السنّة في نسيج المشهد السياسي الوطني، من خلال تمكينهم من المشاركة فعليًا في السلطة، وفي وضع رؤية واضحة لمستقبل يتسم بالكرامة. وبطبيعة الحال، لا يمكن تحقيق ذلك إذا ظلت السلطة المركزية في بغداد تضمر وتضعف بفعل الفساد، والطائفية، وانعدام الكفاءة.
يجب أن تجعل الإدارة الأميركية الجديدة دعمها للحرب من أجل تحرير الموصل مشروطًا بمحاولة حقيقية لترتيب البيت من الداخل في بغداد.. . .