سليم نصار

تذكرتُ، وأنا أسيرُ الأسبوع الماضي في «شارع الحمرا» ببيروت، حادثة مفاجئة مع عنصر فلسطيني بالغ الأهمية.

كنتُ أستعدّ للانتقال إلى الرصيف الآخر المحازي لمطعم «ويمبي»، عندما سمعتُ أحدهم يناديني باسمي.
ونظرت إلى مصدر الصوت لأرى كاهناً أرثوذكسياً يمد يده لمصافحتي.

وتفرّستُ في وجهه طويلاً على أمل أن تسعفني الذاكرة لمعرفة شخصيته، فإذا به يخفف من حيرتي بقوله: لا تتعب نفسك، مش حتعرفني!

ثم أشار إلى مقهى «كافيه دو باري» قبل أن يختار زاوية محايدة لجلستنا الطويلة. وانتظر ريثما انتهيت من ارتشاف قهوتي كي يكشف عن شخصيته بعبارة صادمة: أنا وديع حداد!

مرت لحظات ثقيلة حاولتُ خلالها تأمّل تقاطيع الوجه المتنكّر وراء لحية مصنوعة بدقة متناهية. ثم خرجتُ من ذهولي بسؤال عن الحاجة التي دعته إلى تقمص شخصية كاهن أرثوذكسي؟.

وردّ على الفور: الأسبوع الماضي كنتُ شيخاً درزياً جويداً. كل هذا التمويه نفّذته على مضض، وإنما حرصاً على سلامتي من المطاردة المتواصلة من قبل عناصر «الموساد»، إن كان في بيروت أو في أي مكان آخر، علماً أنني أحمل أسماء مختلفة في الهويات العراقية المزوّرة.

ثم توقف عن الكلام قليلاً ليطلب فنجاناً آخر من القهوة، ويستطرد في سرد آخر محاولة اغتيال تعرّض لها بواسطة سائحة ادعت أنها نمسوية، وفق ما ذكرت أجهزة الأمن.

وفي التفاصيل، قال إن تلك السائحة المجهولة استأجرت شقة قبالة موقع سكنه، لأن الجهة التي أرسلتها الى بيروت وفّرت لها سبل التضليل بواسطة العملاء الكثر. وهو يعتقد أن الصاروخ الصغير تم تأمينه بواسطة عميل مدرّب على استخدام هذا الجهاز المعقّد. وربما تمت برمجة الانطلاق بعد ثلاث ساعات، أي المدة الكافية لانتقالها الى المطار ومغادرة لبنان.

وسألته مقاطعاً: وأين كنت في هذا الوقت؟
أجاب الدكتور وديع بلهجة وديعة: كنتُ في بلاد أخرى. ولم يكن في الشقة سوى شاب فلسطيني صدف أنه كان يشتري بعض الحاجات من محل قريب عندما اخترق الصاروخ شقتي وأحرق جزءاً من الأثاث. وعلى الفور هرع رجال الإطفاء الى العمل على إخماد الحريق.

ثم تطوّر الحديث ليشمل حركات المقاومة الفلسطينية، وما إذا كان خطف الطائرات الأميركية بعد حرب 1967، قد نجح في إرغام واشنطن على تغيير سياستها المنحازة لإسرائيل!

وأكد وديع حداد خلافه مع ياسر عرفات حول هذا الموضوع بالذات، لأن زعيم «فتح» كان يطالبه بضرورة حصر العمليات العسكرية ضد إسرائيل فقط، واستبعاد كل إساءة للولايات المتحدة.

وقال إنه كان يرفض المصادقة على كون الإدارات الأميركية مجرد قوى تنفيذية تخضع لأوامر إسرائيل، بل العكس هو الصحيح، لأن الدولة اليهودية في رأيه، تمثل ولاية إضافية في الشرق الأوسط، من ولايات أميركا.

وراح يعدّد حجم المساعدات المالية الضخمة المعفاة من الضريبة، التي تقدمها الولايات المتحدة سنوياً لإسرائيل، إضافة إلى كمية الأسلحة المتطورة التي تزود بها ترسانتها الحربية. وقال إن الرئيس ليندون جونسون كرّس هذا التعاون الوثيق في حرب 1967 عندما سمح لطيّاري الجيش الأميركي بمشاركة تنفيذ الغارات الجوية التي قام بها الإسرائيليون ضد أهداف عربية.

وفجأة، رفع حدة النقاش عندما سألني بإلحاح: هل تعرف طبيعة الجامع العقائدي الذي يجمع بين الأميركيين والإسرائيليين؟
ولما أجبت بالنفي، استأنف حديثه بتفسير نظرية كراهية الشعوب الأخرى من قبل الدولتين. وقال إن إبادة الهنود الحمر بغرض الاستيلاء على أرضهم التاريخية، لا يختلف عن ارتكاب مجازر 1948 بهدف استيلاء الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية وطرد آلاف السكان الأصليين.

ولما بلغ هذا المستوى من حديثه الانفعالي، أشار وديع حداد بسبابته إلى صدره مرات عدة، قبل أن يستأنف القول: «أنا كنتُ واحداً من عائلة كبيرة هربت من «صفد» ولجأت إلى لبنان. ولما تخرجتُ في الجامعة الأميركية في بيروت كطبيب مع صديقي الدكتور جورج حبش، ساهمنا في إنشاء حركة القوميين العرب، وانتقلنا إلى عمان للعمل في «الأنروا» سنة 1956 قبل أن نُطرد من الأردن ونلجأ نحن الاثنين إلى سورية. ولما أسس الدكتور حبش «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، تسلّمتُ أنا قيادة الجناح العسكري الذي جنّدتُ لخدمته «الثعلب كارلوس» وآخرين. وبقية القصة لا تحتاج إلى تكرار...».

تذكرتُ حديث تلك الجلسة، وأنا أقطع «شارع الحمرا» قبل أن أتوقف أمام بائع صحف، لأقرأ العنوان التالي: «تخلي الرئيس دونالد ترامب عن حل مشروع الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين». وهذا يعني إلغاء اتفاق أوسلو، والعودة الى المربع الأول من القضية الفلسطينية.

جاء هذا التحوُّل الجذري للرؤية الأميركية حيال عملية السلام الفلسطيني- الإسرائيلي، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده دونالد ترامب مع بنيامين نتانياهو في البيت الأبيض.

وبسبب الإعجاب العميق الذي يكنّه ترامب لإسرائيل، فقد منح نتانياهو أربع ساعات من وقته بمشاركة صهره اليهودي جاريد كوشنير الذي تولى الإشراف على عملية السلام بالتنسيق مع سفير أميركا في إسرائيل الصهيوني ديفيد فريدمان. وبعد خلوة استمرت نحواً من ساعة بين الرئيسين، أقام ترامب مأدبة غداء للوفد الإسرائيلي.

خلال تلك الزيارة، طالب نتانياهو بتهميش قضية المستوطنات لأنها في نظره ليست في صلب النزاع مع الفلسطينيين. وشدّد على أهمية اعتراف السلطة الفلسطينية بإسرائيل «دولة لليهود».

وردّ أبو مازن على هذا الاقتراح المكرّر، بأن هذا الاعتراف من قبل الفلسطينيين، يلغي تلقائياً حق العودة إذ يفقد اللاجئون كل أمل في الرجوع من لبنان وسورية والأردن. كما يعطي إسرائيل حق استخدامه طرد مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون داخل ما يُعرف بدولة إسرائيل.

أثناء مؤتمره الصحافي، قال نتانياهو إن بلاده ستحتفظ بالسيطرة الأمنية على المنطقة الكاملة الواقعة غرب نهر الأردن في إطار أي اتفاق سلام.

والثابت أن العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، أقنع ترامب بالعدول عن نقل السفارة الأميركية الى القدس بسبب حدوث ردود فعل قد تؤدي إلى انهيار عملية السلام.

وذكرت الصحف أيضاً أن نتانياهو طلب من ترامب اعترافاً بضم هضبة الجولان إلى إسرائيل، لأن سورية في نظره ستتفكك إلى دويلات، وأن بشار الأسد سيكون رمزاً وطنياً مقيّداً بمصالح روسيا وإيران وتركيا.

واللافت في لقاء ترامب ونتانياهو أن الجانبين انتقدا الاتفاق النووي الإيراني الذي وقّعه الرئيس السابق أوباما، إذ وصفه الرئيس الأميركي الجديد «بأسوأ اتفاق»، مؤكداً العمل على التصدي لنفوذ طهران الإقليمي.

وتتخوّف إيران من قيام الولايات المتحدة بعزلها سياسياً عن المحيط العربي، وتمزيق الروابط التي صنعتها الثورة في الشرق الأوسط، بدءاً من «حزب الله» في لبنان... مروراً بسورية... وانتهاء باليمن. لذلك قام الرئيس حسن روحاني بزيارة الكويت وسلطنة عمان، من أجل تأكيد سياسة حسن الجوار.

وكما دخلت إيران الى العالم العربي من البوابة الفلسطينية، قامت حالياً بتجديد التزاماتها عبر «المؤتمر الدولي السادس لدعم الانتفاضة الفلسطينية» الذي حضره الرئيس نبيه بري.

واستغربت العواصم العربية الانتقادات اللاذعة التي شنّتها «حركة الجهاد الإسلامي» بلسان رئيسها رمضان شلّح الذي وصف السلطة الفلسطينية بأنها أسوأ من المحتل الإسرائيلي، كونها تمنع مقاومة الاحتلال».

وردّت «فتح» بإصدار بيان رسمي، قالت فيه: «إن هذه التصريحات تعبّر عن سقوط سياسي وأخلاقي غير مبرر، خصوصاً أنها تقدّم الولاء لطهران على حساب القضية الفلسطينية».

ودخلت حركة «حماس» على خط الخلاف، لتؤيد موقف «الجهاد الإسلامي» وتقيم شرخاً كبيراً مع السلطة الفلسطينية من المؤكد أن طهران تستفيد منه على ضوء مواجهتها مع الولايات المتحدة.

وترى العواصم العربية أن إسرائيل تتمتع بأفضل الظروف الإقليمية، كونها تستغل الحروب العربية- العربية، لتزعم أن القضية الفلسطينية أصبحت في آخر قائمة الأولويات الدولية. والشاهد على ذلك ما أعلنه زعيم «البيت اليهودي» الوزير نفتالي بينيت، من أن للفلسطينيين دولتين الأردن وغزة، ولا حاجة لثالثة».

واعتبر نفتالي أن مواقف ترامب، تسمح بأن تضم إسرائيل كل مناطق الضفة الغربية، إضافة إلى القدس الشرقية والغربية، وهضبة الجولان.

ومن المؤكد أن الاستقواء بالرئيس الأميركي، أقنع إسرائيل بأن تستثمر عهده من أجل تحقيق حلم «إسرائيل الكبرى»!


* كاتب وصحافي لبناني