الحسين الزاوي

أدت الفضيحة التي عصفت مؤخراً بمرشح اليمين ويمين الوسط في فرنسا فرانسوا فيون، إلى حدوث زلزال كبير في المشهد السياسي الفرنسي، فقد كان فيون يمثل أقوى بديل في مواجهة صعود اليمين الشعبوي المتطرف في فرنسا، بقيادة زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان. 

ويستبعد المتابعون للشأن الداخلي الفرنسي، أن يتمكن فيون، خلال المدة الزمنية التي تفصلنا عن الدور الأول من انتخابات الرئاسة في شهر إبريل نيسان المقبل، من محو آثار ما أضحى يعرف ب «بينيلوب جيت»، نسبة إلى زوجته بنيلوب المتهمة بتحويل أموال عمومية ذات صلة بوظائف وهمية حصلت عليها من قبل زوجها من خلال تعيينها في منصب مساعدة برلمانية في سياق ممارسة فيون لمهامه التشريعية، وهو الأمر الذي أفضى إلى فتح تحقيق قضائي على صلة بالقضية التي ما زالت تفاعلاتها تؤثر سلباً في أجواء حملة انتخابات الرئاسة الفرنسية. 

وقد أسهم تراجع شعبية فيون في بروز تخوفات عديدة على الساحتين الفرنسية والأوروبية، بشأن المستقبل السياسي للدولة الفرنسية، وخاصة أن المرشحين الآخرين المحسوبين على تيار اليسار لا يملكون المؤهلات والكاريزما الكافية من أجل مواجهة تقدم تيار أقصى اليمين المتطرف، في ظل وضع اقتصادي هش وانتشار حالة غير مسبوقة من الخوف والكراهية تجاه المسلمين على خلفية التفجيرات التي عرفتها باريس. 

وعليه فإن احتمال فوز مرشحة أقصى اليمين بمنصب الرئاسة، جعل بعض البريطانيين المؤيدين لمسار البريكست، يتفاءلون بإمكانية التحاق فرنسا بمسار الدول التي تسعى إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي تعتبره قوى اليمين الشعبوي في أوروبا، مسؤولاً عن تراجع سلطة الدول القومية في «القارة العجوز» وعن التدني الحاصل حالياً على مستوى أدائها الاقتصادي. 

ونستطيع أن نلاحظ في سياق متصل أن بعض كتاب الصحف البريطانية لا يخفون تأييدهم وإعجابهم بمارين لوبان التي باتوا يطلقون عليها لقب «السيدة فريكست» تيمناً بالبريكست البريطاني، الذي يخشى البعض أن يؤدي إلى عزلة بريطانيا في حال تواصل وازدياد صلابة وقوة الاتحاد الأوروبي. كما تنظر الدول الأوروبية الأخرى، وخاصة تلك المدافعة عن الاتحاد الأوروبي ومؤسساته مثل ألمانيا وبولندا وإيطاليا، بكثير من القلق إلى تطورات الحملة الانتخابية في فرنسا، لأن باريس تمثل أحد الأقطاب الرئيسية في كل المسارات المتعلقة بتسيير وتطوير مؤسسات الاتحاد. 

وتشير مجمل التقارير القادمة من العاصمة الألمانية، إلى أن المستشارة أنجيلا ميركل تشعر بالكثير من القلق بشأن التطورات السياسية الحاصلة في فرنسا، حيث تتابع برلين الحملة الانتخابية في فرنسا بكثير من المرارة، منذ حدوث فضيحة زوجة فيون، وهي شبه مقتنعة بأن فوز لوبان سيعني اجتياز الاتحاد الأوروبي لأزمة وجودية في غاية الخطورة. 

وقد حاولت الصحف الألمانية من جانبها، إبراز خطورة الوضع في فرنسا، مؤكدة أن فضيحة فيون لو قدّر لها أن تحدث في ألمانيا لانسحب صاحبها من السباق الانتخابي بشكل تلقائي وفوري، وبالتالي فإن قسماً معتبراً من الطبقة السياسية الألمانية ومعها عدد كبير من أقطاب المشهد الإعلامي المحلي، أضحت شبه مقتنعة بأن ضعف المنافسين الآخرين للوبان يقوي حظوظ مرشحة اليمين المتطرف، ويجعلها قاب قوسين أو أدنى من ولوج قصر الإليزيه. 

ويمكن القول عطفاً على ما سبق أن النخب السياسية والفكرية في الدول الغربية الكبرى باتت تشعر بأن اللعبة السياسية الراهنة بدأت تفقد مقومات وعناصر ديمومتها، الأمر الذي يصب في مصلحة القوى الشعبوية التي كانت مهمشة حتى وقت قريب، وهي القوى ذاتها التي تسعى الآن إلى استثمار السخط الاجتماعي والقلق الأمني من أجل فرض قواعد لعبة جديدة لممارسة السلطة في الديمقراطيات الغربية العريقة. 

ويبدو أن ملف الهوية الثقافية والتاريخية سيكون له دور حاسم في السجال الانتخابي المقبل بين المتنافسين الرئيسيين على منصب الرئاسة في فرنسا، حيث أسهمت تصريحات إيمانويل ماكرون مرشح اليسار المستقل خلال زيارته الأخيرة إلى الجزائر، والتي وصف فيها الاحتلال الفرنسي لهذا البلد العربي، بأنه يمثل جزءاً من الجرائم ضد الإنسانية، في إعادة فتح جرح الذاكرة التاريخية؛ كما أثارت مواقف ماكرون، موجة عارمة من ردود الأفعال المستهجنة والمستنكرة، خاصة في صفوف أقصى اليمين واليمين الوسط، وحاول فيون من جهته اللحاق بجوقة المستنكرين والمنددين بماكرون من أجل صرف الأنظار عن ملف الفضيحة التي مازالت تلاحقه، ولكن دون جدوى. 

لا شك من جهة أخرى أن التطورات السياسية التي ستشهدها فرنسا خلال الشهور القليلة المقبلة، ستكون لها تداعيات جد خطيرة على مستقبل الكيان الأوروبي الموحد، لأن «الفريكست» لن يكون كالبريكست، فقد كانت بريطانيا طوال تاريخها المعاصر أكثر قرباً وأشد تحالفاً مع شريكها الاستراتيجي الأمريكي مقارنة بعلاقاتها الفاترة مع أوروبا، وكانت ترفض باستمرار التخلي عن خصوصياتها الوطنية لصالح بروكسل. 

أما الفريكست فسيكون مدمّراً لأوروبا، لأن مسار الاتحاد الأوروبي ارتبط تاريخياً بما يسمى المحرّك الفرنسي-الألماني، منذ الخمسينات من القرن الماضي؛ وفضلاً عن كل ذلك فإن عودة القوى الشعبوية إلى الحكم يمكنها أن تسهم في تنامي الصراعات الأيديولوجية وفي تأجيج النزعات القومية المتطرفة التي أدت إلى تدمير وخراب الحضارة الأوروبية المعاصرة خلال النصف الأول من القرن الماضي.