غسان الإمام 

 رجال الدبلوماسية لا يرحلون في السادسة والستين. فهم يعمِّرون لكي يعالجوا أزمات مستعصية من صنع رجال السياسة. لكن لماذا رحل الدبلوماسي الروسي فيتالي تشوركين فجأة على عتبة الـ65 من العمر، قبل أن يرحل زملاؤه الدبلوماسيون سيرغي لافروف. وجون كيري. ووليد المعلم، مع أنهم يكبرونه بنحو عشر سنين؟


شغلني رحيل المندوب الروسي إلى الأمم المتحدة، في الأسبوع الماضي، أكثر مما شغلتني «تويتات» السياسي دونالد ترمب التي تجنن العالم في ثانية. وتعيده عاقلاً في ثانية. ظننت أن تشوركين يريد أن يجعل من وفاته أزمة دبلوماسية حادة لا يستطيع «الفيتو» منعها. ثم علمت أن تشوركين كان يعاني من فيتو سرطان الدم. ومن فيتو في القلب يقتضي إجراء عمليات تنفسية (النفخ فيه)، لاستنهاض همة قلبه الضعيفة. وآخرها أجريت له قبل 24 ساعة من وفاته.
لماذا لم يهتم الرئيس بوتين ووزير الخارجية لافروف بحياة وصحة الدبلوماسي الروسي المريض؟! عندي سببان وجيهان عجَّلا بموت تشوركين. أولهما اضطراره الدائم لرفع يده بالـ«فيتو ستوب» ضد أي «حماقة» لإنقاذ سوريا. يده المتعبة أرهقت قلبه الحزين على مئات ألوف السوريين الذين ماتوا بفيتو الحصار. وفيتو الجوع. وفيتو الهجرة. وفيتو البراميل المتفجرة. وصواريخ إيران العابرة للقارات «موديل» خميني. وخامنئي. وروحاني.
أما السبب الافتراضي الثاني، فهو اضطرار تشوركين لمجالسة بشار جعفري المندوب الدولي للنظام السوري الموبوء بغازات بشار الكيماوي. وكان جعفري يصافح المندوب الروسي مهنئاً وشاكراً، كلما استخدم الفيتو لصالح النظام السوري. بوتين لم يفتش بشار الكيماوي جيداً، عندما أمره بالتخلي عن غازاته، كي لا يقصفه أوباما، بعدما أوقع ألوف الإصابات المميتة في غاراته الغازية السامة. وعلى مندوبي المعارضة إلى المفاوضة التخلي عن طلب الجلوس مباشرة مع جعفري، من باب الوقاية والحذر من العدوى بغاز سارين أو الكلور.
فقدان تشوركين ليس الخسارة الوحيدة التي مني بها شرطي المرور الروسي. الفشل لا يندى له أي جبين. فقد سبقه فشل كل الدوليين والإقليميين المتورطين في سوريا. الشرطي باق في الجو، بعد انسحابه من البر، حيث لا تتجاوز قواته عدد شرطة المرور التي تسجل مخالفات الآخرين، من دون أن تكون قادرة على منعها.
حلف الشركاء الألداء الذي صنعه الشرطي الروسي مع إيران وتركيا تحول إلى حلف الأضداد ذي المصالح المتناقضة. الشرطي سمح لتركيا، بعد خلاف خطير معها، باجتياح ريف حلب الشمالي. فأحبطت تركيا الحلم الكردي في غرب الفرات، بسيطرتها على مثلث المدن جرابلس. ومنبج. والباب. وطردت «داعش» منها.
الغرض الاستراتيجي لتركيا إقامة جزيرة آمنة لثلاثة ملايين لاجئ سوري لديها. ثم عبور الفرات لتقويض الجيب الكردي القائم على حدودها. والممتد شرقاً لملامسة كردستان العراق. وتركيا مستعدة لاجتياح «الدويلة الداعشية» في محافظتي الرقة ودير الزور لتغطية غرضها الاستراتيجي. ودعت العرب إلى إرسال قوات لمشاركتها في احتلال المحافظتين المذكورتين. وأبدت السعودية استعدادها لإرسال قوات إلى سوريا.
انسحاب أميركا أوباما من سوريا فرض على تركيا تحالفاً مؤقتاً مع شرطي المرور الروسي، ريثما تقرر أميركا ترمب ماذا ستفعل في سوريا. الغرض الأميركي الاستراتيجي في المنطقة هو استكمال تصفية إرهاب «داعش» في سوريا والعراق، في إطار تصفيته في العالم كله. كما تقول وتخطط.
هل يراهن ترمب على التعاون مع شرطي المرور الروسي رغم أن مصالحهما متناقضة؟ ترمب بحاجة إلى استرداد تركيا من حلفها التكتيكي مع روسيا. وهو أيضاً بحاجة إلى النظام العربي، لمواصلة المواجهة مع إيران. والعرب الذين يعتريهم القلق من نوايا إيران. وانتهاكها الكيانات العربية المستقلة، يجدون في ترمب حليفاً يتغاضى عن موقفهم من الديمقراطية والحرية السياسية.
وهل تصل عداوة ترمب لإيران إلى اشتباك عسكري معها في سوريا. والعراق. والخليج؟ الاشتباك مستبعد. لا إيران. ولا العرب يريدانه في ظروف انخفاض موارد النفط. لكنّ هناك اشتباكاً عربياً/ إيرانياً غير مباشر في اليمن. ومباشراً في سوريا. تطمينات حسن روحاني للخليجيين غير كافية. فهو لا يملك الميليشيات التي يقودها «المارشال» قاسم سليماني في سوريا.
لكن ماذا يفعل ترمب بحلف أوباما مع الأكراد الذين تركهم يمزقون سوريا الشمالية؟ تناقضات ترمب تشير إلى وصول الأكراد، قبل الأتراك، إلى الرقة ودير الزور، على متن الدبابات الأميركية! الرقة ودير الزور أرض سورية عربية. وهي ملك للعشائر السورية العربية التي هاجر أبناؤها إلى دول الخليج. وبالتالي، فالخليج يرى مصلحته مع تركيا، في موقفها ضد «الهجمة» الكردية داخل تركيا وعلى سوريا.
النظام السوري يسعى إلى تثبيت مكاسبه العسكرية التي حققها في الشمال. ويخسرها في الوسط. ويجرب استعادتها، مع مرتزقة «حزب الله»، في الجنوب على الحدود مع الأردن والجولان المحتل. لكن تركيا رسمت له خطاً أحمر في مدينة «الباب». فإذا انتهكه فقد يواصل الجيش التركي زحفه إلى حلب.
دبلوماسياً، يتعين على بشار أن يعتمد كثيراً على إيران، لإحباط محادثات جنيف. ورتب «حماماً دموياً» للتنظيمات المسلحة المشاركة في المحادثات. الشرطي الروسي سجل مخالفة لـ«ذبذبة» إيران. وطالبها بالعمل معه على تثبيت الهدنة الهشة. وأمر بشار بوقف قصف المعارضة طيلة المحادثات.
حاولت روسيا خطف دور الأمم المتحدة. ونقلها إلى خان آستانة الكازاخستانية. الشرطي الروسي مرتبك بعد فشل حلفه الثلاثي مع تركيا وإيران. وحائر إزاء موقف ترمب السوري. وعاتب على الأمم المتحدة التي كادت تغيّب فصيله التفاوضي (خلية القوميسار قدري جميل المرابط في موسكو).
الدبلوماسي الدولي المحنك دي ميستورا استرد حريته التفاوضية التي صادرتها روسيا. ووضع منهاجاً مستقلاً لليالي الأنس في جنيف. ويجد تأييداً لدى أوروبا التي حيدتها روسيا في سوريا. استراتيجية جنيف «المستورة» تعتمد على بنود القرارات الدولية: نظام انتقالي. دستور جديد. وانتخابات.
بالطبع، المطلوب من النظام تقديم التنازلات. لكن بشار أقنع أوروبا بأن بقاءه مفيد لمكافحة الإرهاب! وللمحافظة على الإدارة الحكومية. وقد انتخب نفسه رئيساً على أساس دستوره. ودستور أبيه. ومستعد لانتخاب نفسه للمرة الثالثة وفق أي دستور جديد. الولاية الثالثة سوف تنتهي عندما يتجاوز نجله حافظ الثاني سن الطفولة والمراهقة. ويغدو صالحاً للوراثة.
كتبت في «الشرق الأوسط» مراراً عن فشل المعارضات السورية. لا حاجة للتكرار. لكن نسيت شرطاً واحداً. كان على المعارضات السورية أن تتجنب إشراك المعارضات المسلحة في المفاوضات، إلا في المسائل الفنية. النظام الديمقراطي لا يسمح بدور سياسي أو دبلوماسي للعسكر. كي لا يتكرر غدر العسكر بديمقراطية الاستقلال السورية. واستيلاؤهم على السلطة الذي أدى إلى كارثة الانتفاضة. ومقتل 350 ألف إنسان سوري إلى الآن.
أخيراً، ماذا يعني فشل شرطي المرور الروسي. والفشل الدولي. والإقليمي والعربي في سوريا؟ المعنى الوحيد هو استمرار ضياع سوريا في العقد الثالث من الألفية الميلادية الثانية. المتشائلون وحدهم يرشحون الكارثة للحل، في الألفية الميلادية الرابعة..