سمير عطا الله

حطمت «الثورات» العربية الإناء ومضت. تبدأ الأشياء رومانسية، مليئة بالوعود، ثم تتحول إلى كوارث. عند مرور مائتي سنة على الثورة الفرنسية، كتبت في «المستقبل» الباريسية، سلسلة مقالات حول مسؤوليتها عن نشر فكر التغيير بالعنف. كان ذلك، ربما، أول موقف مضاد بين اللبنانيين الذين نشأوا في بيوتهم ومدارسهم وصحفهم على تمجيد مثالية الثورة. أقامت مدرسة «الحكمة» مسرحية عن الثورة، لعب الدورين الأساسيين فيها اثنان من أخوالي. الدور الثالث: «ميرابو»؛ خطيب الثورة، لعبه قريب آخر.


الجميع، تقريباً، رأى الثورة الفرنسية سحراً. أنا لمحت في القراءات صوت المدعي العام يطلب من الشرطة أن تحمل إلى المقصلة مائة عنق كل يوم، جميعها أبرياء. طبعاً، كان هناك ظلم كبير حرَّك التمرد الاجتماعي، لكن الحل، ولو أكثر بطئاً، كان في الإصلاح المدني. الثورات غوغاء تدمر كل ما حولها قبل أن تبدأ في بناء لَبنة جديدة. القياصرة الروس حوّلوا الناس إلى عبيد، لكن الثورة البلشفية حوَّلتهم إلى منفيين وأسرى وعبيد للرعب والخوف. ما إن بدأ النظام السوفياتي يستقر، حتى انهار. سبعون عاماً تحوّلت إلى لا شيء.
من أجمل ما قرأت في هذا المعنى قول توماس كارلايل، إن الطبعة الثانية من كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، كان غلافها مصنوعاً من جلود الذين ضحكوا وهم يقرأون الطبعة الأولى. في سلسلة «المستقبل»، المشار إليها آنفاً، اعتمدتُ كثيراً على خلاصات كارلايل، مع أنني لا أزال إلى الآن منبهراً بأعمال روسو الأديب. احذروا المفكرين ورجال النخبة، يحذّر كارلايل.
ثورات الربيع العربي كانت محكومة بالفشل لأنها طرحت الإطاحات من دون البدائل. جميعها كانت لديها قضايا عاجلة وعادلة، لكنها تركت نفسها تنزلق إلى عنف الأنظمة، ومن ثم، تسربت إليها عوارض الثورات ومساوئ الحروب الأهلية. ما الذي أراده «ميدان التحرير» بعد تنحي مبارك؟ ماذا أرادت تونس بعد خروج بن علي؟
طبعاً، الانتفاضات ليست رحلة كشفية يمكن تنظيمها بالصفارات. ولكن الذي يبدأ عملاً ما، يجب أن يعرف كيف يخرج منه. أتذكر كلام كارلايل، ذلك المؤرخ الكبير، وأنا أبحث اليوم عن رجال النخبة الذين تصدروا حركات مصر وليبيا وسوريا، وبعضهم أصدقائي، ولست أريد أكثر من عناوينهم من أجل السؤال عنهم، وأيضاً من أجل الاعتذار منهم على تأييدي لهم؛ ليس لأنهم أخطأوا، أو أخطأت، في النوايا، وإنما في الحساب.. . .