حازم صاغية

هنا وهناك تظهر بداياتُ مراجعةٍ للسنوات الستّ الماضية. من يظنّ أنّه أخطأ يهمّ بالمراجعة، ومَن يظنّ أنّه تسرّع. والذي غلّب السياسة على المجتمع، ومثله الذي فعل العكس. والمعوّل على العمل المباشر كما المعوّل على الثقافة... وهكذا دواليك.

بالتأكيد، أمر كهذا صحّيّ من حيث المبدأ، ويغدو أكثر صحّيّة كلّما نما وتطوّر. فالملاحم التي عشناها في تلك السنوات تستحقّ المساءلة، والمعنيّون بالأمر، فعلاً أو تفكيراً، مسؤولون حيال ما فعلوا وما فكّروا، وحيال أنفسهم قبل سواهم.

هذه الأسطر، بدورها، تطمح إلى إقحام عنوان آخر في المراجعات المحتملة. إنّه موقع لبنان وتجربته في تاريخ الحملة على الحرّيّة: الحملة التي بلغت أوجها في سحق الثورات وفي الانتصار للتراكيب الأمنيّة والعسكريّة. المسألة هذه محطّة بارزة ومسكوت عنها في تأريخ الحرّيّة عربيّاً، ولا سيّما في المشرق.

وقد لا يكون من المبالغة القول إنّ النظام العسكريّ – الأمنيّ وجد مبكراً في الحرّيّات التي أتاحها النظام اللبنانيّ عدوّه ونقيضه. لقد كان تقويض نظام الحرّيّات اللبنانيّ وخنق عدوى الحرّيّة من شروط إخضاع الشعوب المجاورة. لهذا أُرسلت الأسلحة بكثافة إلى لبنان، وفيه جُرّب اغتيال الصحافيّين مبكراً. ولم يكن بريئاً تشجيع الأنظمة المجاورة لأحزاب وأيديولوجيّات فيه ممنوعة أو مدجّنة في بلدانها. فلئن استحال نقد النظام اللبنانيّ بالمعنى السهل الذي تُنقد فيه الأنظمة الوراثيّة، فقد رُكّز عليه بوصفه ذا برلمانيّة «كرتونيّة»، وبأنّه نظام طبقيّ و «عميل». وتمّ تشغيل تلك الأيديولوجيّات (وحدة، تحرير، اشتراكيّة...) ليس فقط لحجب الحرّيّة كمطلب وقضيّة، بل أيضاً كأسلحة لتقويض لبنان.

بالطبع هناك دائماً نقد واجب ومستحقّ لطبقيّة المجتمع اللبنانيّ، وعائليّة تركيبه السياسيّ، ممّا تستحقّه أنظمة كثيرة، وممّا يمكن الرهان على إصلاحه سلماً وبالتدرّج، وخصوصاً عبر توسيع الحرّيّات والنضالات المدنيّة. لكنّ أجندة النظام العسكريّ – الأمنيّ في الجوار السوريّ شيء آخر: إنّها تاريخيّاً مطالبة بلجم الصحافة، وبعدم استقبال اللاجئين السياسيّين... قبل أن تغدو مصادرة للسياسة الخارجيّة وإلحاقاً لها بدمشق.

لقد انفجر لبنان في 1975 بفعل تناقضاته. والحرّيّة دائماً مصنع تناقضات، لا سيّما لجهة توفيقها مع المساواة. لكنّها تناقضات ما كانت لتنفجر ذاك الانفجار الفظيع لولا أنّ تلك الحقبة كانت تسجّل صعوداً مدوّياً لأعداء الحرّيّة: حافظ الأسد فرض ديكتاتوريّته في 1970 (صدّام والقذّافي ونميري صعدوا في الفترة نفسها). حرب تشرين (أكتوبر) 1973 أعطت ديكتاتوريّة الأسد بُعداً امبراطوريّاً، سمّي قوميّاً. المقاومة الفلسطينيّة كانت توصف بالقداسة، وكان يمرّرها النظام السوريّ إلى لبنان ويسلّحها، وهو وهي يسلّحان كلّ من يريد أن يتسلّح.

تأريخ الحرب على الحرّيّة بوصفها محطّتين كبريين، واحدة هدمت لبنان وأخرى سحقت الثورات، يمنح الأقلّيّات دوراً أكبر في معركة الطلب عليها. يقدّم الحرّيّة مطلباً للأكثريّة وللأقليّة، ويساهم في مصالحة ما ينبغي أن يكون متصالحاً.

من دون بتّ هذه المسألة تبدو الثورات آتية من عدم، تفتقر إلى تراكم سابق عليها. في النضالات لأجل الوحدة والتحرير والاشتراكيّة لا يتراكم الطلب على الحرّيّة، بل تبقى قدرة الأنظمة على التوظيف أقوى وأكبر.

إذاً، التراكم التقدميّ مداره وموضوعه الحرّيّة، لا القضايا التي اختيرت، بغضّ النظر عن صحّتها أو خطئها، بموجب وعي زائف أو موظّف. طلب الحرّيّة يأتي أوّلاً، كي يقول الناس بوعي حرّ ما إذا كانوا يريدون أن يذهبوا يميناً أو يساراً. ما إذا كانوا يريدون أن يناهضوا الاستعمار أو يصالحوه، أن يقاتلوا إسرائيل أو يساوموها، إذا كانوا يريدون أن يؤمنوا أو يلحدوا.

النخب التي ثارت في الجوار العربيّ لا بدّ أن تتصالح ذات يوم مع هذه الحقيقة، وإلّا ظلّت مثقلة بالأدوات التي حوربت بها الحرّيّة في لبنان قبل أن تُوأد في البلدان الأخرى.

ومصالحة كهذه ضروريّة جدّاً كي يستقيم خطاب الطلب على الحرّيّة... وكي يكون لهذا الطلب تاريخ وتأصيل محلّيّان يُعنى بهما الجميع وينخرط فيهما الجميع. هنا فحسب، لا في الصراع ضدّ هذا العدوّ أو ذاك، تصبح الحرّيّة ابنة بيئتنا.