هدى الحسيني

رجل واحد التقى حوله الحزبان الجمهوري والديمقراطي في إدارة الرئيس دونالد ترمب، هو إتش. آر ماكماستر مستشار الأمن القومي، الذي حل مكان مايكل فلين بعدما استقال بسبب اتصالات هاتفية مع السفير الروسي في واشنطن. ماكماستر كان قد وضع قبل عقدين من الزمان كتاباً بعنوان «التقصير في أداء الواجب»، عن الأكاذيب التي أدت إلى حرب فيتنام، وفيه يحكي عن ضرورة قول الحقيقة للذين في السلطة. هذا الكتاب احتل، مع تعيينه في المنصب، مرتبة الأكثر مبيعاً، على موقع «أمازون». وكان قد أعلن أن الجنرال، بثلاثة نجوم، سيبقى في الجيش مع ممارسته لمسؤولياته الجديدة، تماماً كما حدث مع الجنرال كولن باول عندما صار مسؤول الأمن القومي في عهد الرئيس رونالد ريغان، ليعود بعدها إلى البنتاغون، ويصبح رئيس هيئة الأركان المشتركة، في ظل جورج بوش الأب.


كانت وظيفة ماكماستر، حتى المنصب الجديد، إعادة تأهيل قدرات الجيش. في شهر مايو (أيار) من العام الماضي، جرى لقاء مطول مع ماكماستر في معهد الدراسات الاستراتيجية في واشنطن، تحدث خلاله عن الفترة التي يعيشها العالم، وهي فترة زيادة الخطر على الأمن الوطني والدولي. وعزا سبب تكاثف الأخطار إلى التخفيضات في القدرة العسكرية الأميركية على التحديث بالذات، وأن الوضع العالمي بمدى تأثيره على الأمن والمصالح الحيوية الأميركية يتغير، ويستدعي رفع مستوى التحديات التي يواجهها الأمن القومي الأميركي. «العالم مختلف... العالم يتغير دائماً». قد تكون العبارة الأكثر خطورة التي قالها الجنرال ماكماستر التالية: «إننا نرى تحولاً في الجغرافيا السياسية ومنافسة يتسببان في فرض أخطار كبيرة، وأعتقد أن ارتفاع خطر حدوث أزمة دولية كبرى هو الأعلى منذ 70 سنة».
يمكن وصف ماكماستر بـ«الجنرال البروفسور». في اللقاء ذاك، استشهد بالأطروحة «قافية التاريخ» التي كتبتها مارغريت ماكميلان عام 2014، وقارنت فيها ما بين عامي 2014 و1914، ورأى ماكماستر فيها عودة للمواجهات الجيو - سياسية. وقال تعليقًا: «يمكن أن نعتبر أن إجازتنا من التاريخ بعد فترة الحرب الباردة، قد انتهت».
الجنرال - البروفسور، اعتمد على ما جاء في الكتب، ليصل إلى شرح استراتيجيته. أشار إلى كتاب كان قد صدر حديثاً - نصح بقراءته أيضًا الرئيس السابق باراك أوباما - بعنوان «حدود مضطربة» للكاتبين جاكوب غريجييل وويس ميتشل، وفيه يلقيان الضوء على عودة الحياة إلى القوى الرجعية: روسيا والصين اللتان تحيط بهما دول ضعيفة أصبحت الآن ساحات وغى، ساحات تنافس بعيدة عن قبضة القوة الأميركية. ويصف الكاتبان إيران كقوة رجعية، وسلطا الضوء على تهديدات كوريا الشمالية للأمن الوطني والدولي.
قال ماكماستر إن الذي وضع نهاية لفترة ما بعد الحرب الباردة هو غزو روسيا لأوكرانيا، وضمها شبه جزيرة القرم. لم يكن هذا تطوراً جديداً، من حيث شكل العدوان الروسي، إذ يمكن العودة إلى تهديد دول البلطيق عام 2007، وغزو جورجيا عام 2008. ومرة جديدة، يشير الجنرال ماكماستر إلى كتاب «إحساس بالعدو» لزكريا شور: «ليس المهم أن تفهم نمط سلوك عدوك، بل أن تستبق وتخمن نمطاً لكسر هذا السلوك، واتخاذ إجراءات التصدي لتهديداته في الوقت المناسب». هنا انتقد رد الفعل الأميركي: كان ردنا الاستراتيجي تسريع انسحاب قواتنا، وقوات الجيش على وجه الخصوص، من أوروبا، فأيقظنا بالتالي الخطر الآتي من روسيا التي تشن حروباً محدودة لأهداف محدودة، من دون أي تكلفة. لذلك رأى أن المطلوب هو الردع لتصعيد تكلفة الحدود، وإقناع العدو بأنه غير قادر على تحقيق أهدافه بكلفة معقولة.
أهداف روسيا بنظر الجنرال: «زرع الشك ونظريات المؤامرة عبر تحالفنا. أهدافها ليست دفاعية، بل هجومية، تعمل على انهيار فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما بعد الحرب الباردة، وانهيار النظام السياسي في أوروبا، واستبدال هذا النظام بآخر أكثر تعاطفاً مع المصالح الروسية».
رأى الجنرال أنه يمكن رؤية السلوك الاستراتيجي الصيني بشكل مماثل للروسي: «ما يجري في بحر الصين الجنوبي هو توسع إقليمي، تطوير اليابسة لفرض نفوذ بحري وجوي، وتقييد حرية الحركة، وتسعى الصين للقيام بجهد اقتصادي من أجل تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية الاقتصادي في المنطقة».
أما ما يجعل كوريا الشمالية مخيفة، فهو: «قد تكون قوة نووية، لكنها في الوقت نفسه دولة فاشلة، وهذا ما يجعل وضعها خطيراً للغاية».
يعترف الجنرال ماكماستر بأنه لا توجد حلول قصيرة الأجل للمشكلات الطويلة الأمد: «والجيش يلعب دوراً مهماً جداً في وضع شروط، وتسهيل الحلول الأمنية على المدى الطويل».
عندما طرح وضع إيران، كان كاشفًا لاستراتيجيتها المرتبطة باستمرار الكوارث الإنسانية في الشرق الأوسط الكبير. وأكد بثقة أنها تقاتل حرباً بالوكالة ضد الولايات المتحدة منذ عام 1979، وكشف أن الإيرانيين يرون أن مشكلات الشرق الأوسط تصب في مصلحتهم: «ما تقوم به إيران هو تطبيق نموذج (حزب الله) في لبنان على نطاق واسع في المنطقة، بحيث تكون هناك حكومات ضعيفة تعتمد على إيران لدعمها، في حين تستمر إيران بتشكيل ميليشيات ومجموعات أخرى مسلحة خارج سيطرة الحكومة، بحيث تطلقها ضد الحكومة إذا ما اتخذت إجراءات ضد المصالح الإيرانية».
أشار ماكماستر إلى أن المشكلة في العراق ليست الفساد كفساد، بل «التخريب الإيراني، واستخدام الضغط على الحكومة كي تبقى متعاطفة مع المصالح الإيرانية، وهي تؤخر الإصلاحات وإعادة بناء قوات الأمن العراقية المتعددة الطوائف».
عندما يصل الجنرال للحديث عن «داعش»، يقول: «إنها مشكلة نعرف أننا لا يمكننا استيعابها»، ويضيف: «نِصفُ الشعب السوري إما مات، أو جرح، أو تهجر. الكارثة الإنسانية تعصف بالمنطقة، وتزعزع أوروبا بطريقة ما، وهناك ترابط بين كل هذه الأخطار الأمنية. روسيا، على سبيل المثال، نعرف أنها تمول بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، في وقت تعمل فيه على تقوية محور نظام الأسد. إن الإيرانيين والروس يدفعون إلى تفاقم أزمة اللاجئين».
لكن، هل يميل الجنرال إلى شن الحروب؟
في لقائه، شدد على قدرات القوات الأرضية، وعنى بذلك: «الجيش، ومشاة البحرية، وقوات العمليات الخاصة». ثم أوضح: «إن ما نريده هو تجنب الصراع، وحلفاؤنا ضروريون لفعل ذلك. إننا نطور قدرات الجيش، لا لتوقع حرب معينة في المستقبل، لكن لمنع حدوث حرب؛ الوسيلة لمنع الحرب تكون بأن نثبت للعدو أننا قادرون على فرض النتيجة عليه، من دون تعاون من قبله».
«كانت الحروب في التسعينات هدفاً لممارسة التدريبات، وكانت تنتهي عندما تنتهي الذخيرة ويكون العدو قد قام بدور المتلقي السلبي للقوة العسكرية، ثم نغادر. لم نعد نفعل ذلك إطلاقاً، ما نقوم به الآن هو فهم التعقيدات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية، بسبب الحاجة إلى بيئات أمنية تقوم بتطوير الشراكة».
بسبب ما تعلمه الجنرال في أفغانستان والعراق، يريد ألا يسمع إطلاقاً عبارة: «بناء قدرة الشريك» لأنه «نحن هناك من أجل المصالح الأميركية، ومصالح المتحالفين معنا. لذلك، علينا التركيز في المنطقة على الإصلاح والمؤسسات».
يشرح ماكماستر: «داخل الحكومة العراقية، أحبطت كثير من الجهود عن طريق التخريب الإيراني. بدأ الانحدار عندما سُرقت نتائج الانتخابات من إياد علاوي بسبب التدخل الإيراني عام 2010 (...) ثم هناك محركون كثر للصراع في سوريا والعراق، لكن هناك حاجة إلى نهج خارجي لإقناع الجهات الرئيسية الفاعلة في المنطقة بأن مصالحها تكون بتشجيع التقارب بين المجموعات، بدل رعاية المتطرفين، وتحريضهم ضد بعضهم بعضاً، في لعبة دموية محصلتها: صفر».
البروفسور ماكماستر يصل إلى الأخطار، ويحلل أسباب الحروب، ويرغب في كشف أبعادها للذين يتمادون. «جميل» أن نسمع تهديدات القادة الإيرانيين بالتحدي المطلق، و«جميل» أن نسمع تصريحات «القادة» الفلسطينيين الذين تستضيفهم إيران، مثل أحمد جبريل الذي يريد «شن الحرب على إسرائيل رغم أنف الأردن»! طبعاً من العيب المقارنة. لكن أمام حضرة الجنرال البروفسور، فإن الحديث عن الاستراتيجيات والأخطار وردعها، يبقى أمراً ممتعاً.. . . . . .