فهد الدغيثر

ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب أول خطاب له أمام الكونغرس بحضور جميع أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، إضافة إلى أعضاء المحكمة العليا وعدد من القادة العسكريين وجهاز الأمن وشخصيات أخرى منتقاة. هذا الخطاب الذي سمعناه يشبه إلى حد بعيد ما يعرف في العرف الأميركي بخطاب «حالة الاتحاد»، ونظراً لأن مثل هذا الخطاب لن يحدث قبل كانون الثاني (يناير) من عام ٢٠١٨، فقد رأى الرئيس ضرورة تتطلبها هذه المرحلة بإلقاء خطابه يوم الثلثاء الماضي.

وجود الرئيس في هذا البهو الكبير عكس بصورة واضحة حال الانقسام الواضح بين الجمهوريين والديموقراطيين بتفاصيل، لا أذكر أنني شاهدت لها مثيلاً في السابق. اتضحت هذه الحال من خلال التصفيق أو الوقوف الذي يصاحب عادة إلقاء الكلمة. هذا الانقسام الكبير داخل أميركا وليس فقط داخل الكونغرس ليس وليد اللحظة، إذ ظهر على السطح وأصبح واقعاً منذ ليلة فوز ترامب بالرئاسة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. الغالبية العظمى من الأقليات العرقية ونسبة كبيرة من النساء لم تصوت للمرشح ترامب لأسباب، معظمها حقوقي، وجاء فوزه صادماً لهم. 

العرق الساكسوني وعدد مهم من بعض الأقليات التي هاجرت إلى أميركا منذ عقود وقفوا مع خطاب الرئيس المتشدد، الذي ركز على ناحيتين مهمتين في حملته، هما قضية وقف الهجرة غير الشرعية إلى بلاده ووعده بإعادة المصانع المهاجرة إلى المكسيك والشرق إلى أميركا، إضافة بالطبع إلى مواقفه الصارمة من مواضيع الإرهاب.

صفق الحضور كثيراً لزوجة رايان أونز الذي قتل زوجها في اليمن أخيراً بعد فشل كبير رافق عملية أمنية سرية في اليمن ضد تنظيم «القاعدة» لم تظهر تفاصيلها بعد.

تعاطف الجميع بالطبع كون القتيل مات دفاعاً عن أمن بلاده، وكذلك دفاعاً عن أول قرار من نوعه يتخذه الرئيس، حتى لو لم ينجح فيه، لا سيما أن هذه العملية، كما يتردد، كان الرئيس السابق أوباما قد رفض المضي بها، لأنه لم يقتنع بسلامتها، ومع ذلك تجاوز الديموقراطيون ذلك ووقفوا مع رئيسهم الحالي. وصفقوا أيضاً عندما أتى على ذكر «الحليف العظيم» إسرائيل كما قال، وأيضاً عندما أكد للجميع أهمية حلف الأطلسي والتزام أميركا الدفاع عن دول الشرق اليابان وكوريا وغيرهما، إضافة بالطبع لتأكيده مواجهة إيران ومواقفها المشبوهة مع «داعش» وغيرها من المنظمات الإرهابية.

ظهر الرئيس هادئاً وتمتع بصورة الرجل الرئيس التي كان إلى حد ما يفتقدها في معظم ظهوره أمام الناس.

ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع ليس حال الانقسام ولا مظهر الرئيس، بل الخطاب وفحواه، وماذا يعني ذلك من حيث الممارسة السياسية وإدارة البلاد. الحقيقة ومهما اختلفنا حول سياسات أميركا الخارجية، أنها تبقى مدرسة واقعية لكل من يريد أن يفهم ويدرك معنى المرونة والبحث الدؤوب عن الأفضل في إدارة البلاد. أي رئيس جديد يستطيع قلب السياسات الداخلية التي تركها الرئيس السابق بخطة أو خطط جديدة على افتراض بالطبع أن تلقى هذه الخطة الجديدة دعم المشرعين في الكونغرس. من أهم المواضيع المثيرة للجدل موضوع الرعاية الصحية. الرئيس الديموقراطي السابق باراك أوباما اعتمد ما يعرف بـ «أوباما كير»، وهي الخطة التي تعتمد على رسوم تأمين وتكاليف طبية أكثر تتم جبايتها من الأغنياء لتغطية رسوم الفقراء العلاجية.

بمعنى آخر، إن كنت غنياً في أميركا فبوالص التأمين التي ستدفع ثمنها وتتبناها لنفسك ولعائلتك مرتفعة إلى الحد الذي يجعلها تعوض النقص المالي الناتج من تبني ذوي الدخل المحدود والفقراء لبوالص التأمين بتكاليف أقل. نظام يقترب كثيراً من مقومات فكر الاشتراكية. الرئيس ترامب سيشطب تماماً هذه الخطة ويترك المنافسة حرة في المجتمع كما وعد أثناء حملته الانتخابية.

أعجبني أيضاً موقفه من هيئة الغذاء والدواء الأميركية التي تتأخر كثيراً وبسبب البيروقراطية المبالغة في التعقيد في اعتماد الأدوية الجديدة، وتطلب مئات البحوث والاختبارات قبل السماح باستخدام أي علاج جديد. الرئيس وعد بتحطيم هذه البيروقراطية وتسهيل مهمة التراخيص وتسريعها.

خطاب كهذا عمل على تحريره ربما فريق متكامل من المستشارين والمتخصصين، أراه ينفع كل من استمع اليه حتى من خارج أميركا.

لا توجد دولة في العالم إلا وتعاني من عدد من المشكلات الداخلية التي تعاني منها أميركا وأكثر. الفرق أن الأخيرة تضع كل مشكلاتها على السطح، ويتناولها الكثير من المحللين ووسائل الإعلام، ولذلك فمتابعة ما ستفعله الإدارة الجديدة ستكون حتماً نافعة لدولة أو دول أخرى، وبأقل التكاليف الاستشارية. 

على سبيل المثال وليس الحصر، تشكل الرعاية الصحية مشكلة مؤرقة لعدد من الدول النامية، ومنها السعودية، التي ستبدأ هذه الأيام بالأخذ ببرامج الرعاية الصحية نحو آفاق جديدة، تماشياً مع برامج التحول الوطني. ما سيتقدم به ترامب للكونغرس قد يناسب عدداً من دول العالم ممن تعاني من غياب الإستراتيجية الواضحة لرعاية طبية أفضل. وفي المملكة نفسها ما زلنا نعاني من بيروقراطية قاتلة في تراخيص بعض الجهات الحكومية كالبلديات والصحة، على رغم تطور وزارة التجارة في هذا الشأن تطوراً هائلاً، ومن هنا فالقضاء على كل ما يتسبب في تعطيل الرخص بكل أنواعها يعتبر نجاحاً.

في شكل عام ظهر الرئيس ترامب متصالحاً في خطابه خلافاً لتلك النبرة الحادة التي اعتدنا عليها في حملته الانتخابية وفترة وجوده بالبيت الأبيض، لكن يبقى السؤال الأهم: هل سيتعاون معه الكونغرس بشقيه؟ هل سيتوقف الإعلام عن «جلد» هذا الرجل بالصورة التي نراها اليوم، وهي صورة لا تتوقف على الإطلاق؟ هل ستتوقف التظاهرات المنظمة داخل المدن والتي تنادي بحماية المهاجرين والأقليات؟

تعاون الإعلام والكونغرس سيدفع الشعب إلى قبول هذه المبادرات وغيرها، وقد قطع هذا الرئيس الكثير من الوعود على نفسه منذ بدأ حملته الانتخابية قبل عامين. لعل سيطرة الجمهوريين على مجلسي الشيوخ والنواب كفيلة بتذليل العقبات التي قد تواجه ترامب. من الناحية الأخرى ينبغي على الرئيس أن يتصالح مع الإعلام الأميركي الشرس. صحيح أن الغالب الأعم من وسائل الإعلام هي ليبرالية التوجه، وتعتمد كثيراً على حفظ وصيانة الحريات وتدافع عن ذلك بقوة. مع هذا ومع كون هذه الوسائل سخرت وتندرت بشخصية ترامب إبان الحملات الانتخابية، فاستمرار العداء مع هؤلاء العمالقة يعتبر مغامرة غير محسوبة النتائج.

الإعلام يملك من القوة والثبات ما يجعل أي شخص أو مؤسسة تقرر معاداة هذه الوسائل تتعرض للخسارة. دور الرئيس اليوم هو الاحتواء وليس التصعيد. دور الإعلام والمنظمات الحقوقية لو أحسن التعامل معها سيختصر على ترامب الكثير من الوقت، ويقلل من الاحتقان غير المسبوق الذي يعيشه الشعب الأميركي اليوم.


* كاتب سعودي