محمد الرميحي 

 من المرات القليلة التي أحتار في اختيار عنوان لمقالي الأسبوعي كي يعبر باختصار عن صلب الموضوع الذي أرغب في مناقشته هي هذه المرة، فقد كان في ذهني أكثر من عنوان لهذا المقال؛ واحد هو (شكرا لإم بي سي) محطة التلفزيون العربية، التي أدخلت الفرحة في قلوب كثيرين في الفترة الأخيرة،

سوف أناقش كيف فعلت ذلك بعد قليل!، وعنوان آخر خطر لي هو (تباً للظلام)! ولكني اخترت أخيراً العنوان السابق في رأس المقال، حتى يشبهني، فأنا من أولئك النفر الذين يتحفظون في الإطراء، وفي الوقت نفسه، لا أصرف روشتات الإدانة لأحد بالمجان. ما جعلني أكتب هي الأحداث الفنية التي تمت في نهاية شهر فبراير (شباط)، الشهر الذي يحمل عنواناً مهماً للكويتيين، وهو شهر التحرير، فقد قامت «إم بي سي» المحطة الفضائية العربية ببث أوبريت (إن صح التعبير) قصير، ولكنه مؤثر، ابتهاجاً بالعيد الوطني السادس والخمسين للكويت، ذكرتنا الأغاني فيه بصعود الفكر والنشاط المفتوح على الثقافة الفنية الإيجابية في الكويت قبل عقدين أو ثلاثة عقود، كان زمناً جميلاً ومبهجاً وحيوياً مليئاً بالموسيقى الرائعة والأغاني الممتعة، اعتماداً على التراث وتطويراً له، الذي شغفت به أجيال متتابعة، أما الشكر الثاني فهو لبرنامج أيضاً لـ«إم بي سي» وهو «أرب آيدول»، أو فنان العرب، المسابقة التي تقيمها «إم بي سي» في موسمها الرابع 2017 لاختيار أفضل المتقدمين في مسابقة فن الأغنية العربية الجميلة صوتاً وموسيقى من الشباب العربي. لقد كانت الحلقة الأخيرة رسالة فنية سياسية رائعة في حب الوطن وعلاقته بالفن، وكانت الصور التي نقلت من بيت لحم، مسقط رأس الفنان وحاضنته، وهي تحتفل بالشاب الذي حاز السبق، يعقوب شاهين، صوراً تمس شغاف القلب، أما اللقطات التي بثت بعدسة البرنامج فهي من جديد تؤكد الأولوية القصوى للفن في حياة الشعوب، التي تعمل كرافعة للأمل بالمستقبل. لقد كانت إطلالة الفنان الفلسطيني وأغنيته، تُغني في رأيي عن مائة خطيب مفوه يتحدث عن الوطن الفلسطيني! كل ذلك استدعى إلى تفكيري مقولة رددتها كثيراً في أكثر من مكان، وهي أن أغنية مشوقة وطنية وجميلة قد تكون أفضل من امتلاك كتيبة من المقاتلين! أي أنها تشحذ المشاعر الوطنية وتُعليها، وتشيع المحبة وتذكر بمأساة، أو بقيمة، وتغوص عميقاً في المشاعر، وترددها الأم لأطفالها.
يذكر لنا التاريخ أن بعضهم إبان الحرب العالمية الثانية اقترح على ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا وقتها، أن تخفض ميزانية الثقافة والفن في الميزانية العامة، دعماً للمجهود الحربي، ونقل عنه أنه قال: ولماذا نحارب إذن؟! كلمة بليغة، فالشعوب تحارب دون أرضها وثقافتها أيضاً.
بيت القصيد أن منطقتنا تشهد حرباً ضروساً اليوم لما عرف على نطاق عالمي بـ(الإرهاب)، ليس في نيتي الآن أن أدخل في نقاش تفصيلي لما هو تعريف الإرهاب وكيف ينشأ، ولكني على يقين أن أعداء الفرح باجتهاداتهم المختلفة وتخرصاتهم، كيفما كانت، يرغبون في تصحير فضائنا الثقافي، من أجل تهيئته لقبول التشدد المفضي حتما إلى الإرهاب، فهناك إرهاب يستخدم القنبلة والرشاش، وهناك إرهاب أيضاً يستخدم الكلمة مستنداً إلى مقولات كثيرة، منها ما انتزع من عصور التخلف والظلام، كي يفرضها على عصر اختلف في كل شيء، وأول ما اختلف فيه هو الاستخدام الأكثر نجاعة للعقل! فقد تطايرت في الكويت تصريحات للبعض، وأنا أنقل بالحرف، لأشخاص قد يكونون مؤثرين، التصريح عن مؤسسات النشاط الثقافية في الكويت، كونها (ملهى ومكاناً للرقص وارتكاب المعاصي)، إشارة إلى دار الأوبرا الكويتية! وتصريح آخر يرى (جلب فرق رقص ماجنة لعرض بضاعتها الفاسدة!)، لعل القارئ الفطن يلحظ هنا أن استخدام بعض التعبيرات القاصدة للتنفير (مُجون، معاصي، بضاعة فاسدة!) هي العبارات نفسها التي يطلقها المتشددون أصحاب الرأي الأوحد، لإشاعة حيز من التنفير الأعظم لنشاطات فنية هادفة، وبالتالي حشد البسطاء وإقناعهم بأن ما يتم هو إخلال بمعتقدات، وليس ترويحاً عن النفس. لقد كان وما زال أبناء الخليج يطربون للترويح عن النفس، تجد ذلك في أفراحهم، متنوعاً وغنياً، بل تجده حتى أثناء قيامهم بأعمالهم التقليدية، والفضاء الفني زاخر بتلك الأهازيج المنوعة والغنية، وقد قام بتطويرها نفر من المخلصين، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من الشخصية الوطنية.
في الأسبوع نفسه، حملت الأنباء أن الرواية الجديدة للروائي الياباني هاروكي موريكامي الأخيرة، قد طبع منها سبعمائة ألف نسخة، ويقدر أن معظم النسخ قد نفدت، ومن يقرأ أعمال ذلك الروائي يمكنه الاطلاع على حياة وثقافة الشعب الياباني، وقد قامت كثير من دور النشر في العالم بترجمة روايته الفذة! على مقلب آخر، في الوقت الذي سر أبناء الكويت بشريط «إم بي سي»، وبالأغاني التي واكبت العيد الوطني السادس والخمسين، نرى بعض من التصق بأفكار زمن الانحطاط العربي، يهاجم الفرح ويطالب بأن يخضع الإنتاج الثقافي في البلاد إلى الرقابة، ويعوق في الوقت نفسه قوة الكويت الناعمة، ويقلب صفحات الكتب لعله يحصل على شاردة أو واردة ينتزعها من سياقها. بنت الكويت مؤخراً صرحاً ثقافياً متميزاً، هو مركز جابر الأحمد الثقافي، وهو مبنى رائع يحوي عدداً من المسارح، ويهدف إلى إعادة مسار الثقافة الفنية إلى سيرتها الأولى، مشجعاً الشباب الكويتي على الاندماج في إكمال مسيرة الكبار، مثل المرحوم أحمد باقر (سنباطي الخليج) كما يطلق عليه المختصون، أو المرحوم أحمد العدواني من المتوفين، وسلسلة لاحقة أخرى من الفنانين الحاليين، نرى أن بعضاً من أعداء الفرح يكيل اللوم ويطلق الاتهامات وينادي بالويل والثبور، ليس فقط في الحياة الدنيا، ولكن حتى في الآخرة، وكأنه يملك مفاتيح الرحمة والعذاب! اللافت أنه في الوقت الذي يستمتع فيه غالبية الناس بما فعلته «إم بي سي» من ترفيه ورفع لوتيرة الحماس الوطني، يصمت كثيرون أمام تلك الأصوات التي تنادي بالتصحر وتقذف الآخرين بالاتهام ونزع الإيمان عنهم! أمعنا في خلط الأوراق وربما التكسب السياسي، هذا التناقض (الاستمتاع والسكوت) هو الذي يجب أن يناقش على أوسع نطاق، وتفنيد أسانيد المتصحرين، والعمل على تغيير فهم واستيعاب الجيل الجديد لدور الفن الوطني والإنساني، دور الترفيه في حياة الإنسان. في الكويت، كما في غيرها من بلداننا العربية في هذه المرحلة من التاريخ، نخوض حرباً ضد الإرهاب، وأفضل سلاح لدحره هو الثقافة، ببعديها الإنساني والحضاري، في المسرح والأغنية والفيلم والكتاب، ولكن يجب ألا نستهين بكتائب أعداء الفرح، فهم للكتاب وللأغنية والمسرح والفيلم أعداء، ذلك تصورهم، يصفهم أحد كبار الروائيين العرب، هو واسيني الأعرج، بصفة مختصرة ولكن معبرة، أنهم (حراس النوايا)!!
آخر الكلام:
شكراً لـ«إم بي سي».. . . .