كمال بالهادي

الظّاهرة الإرهابية الناشئة بعد ما يسمى الربيع العربي، والمنطلقة من العراق وسوريا، وامتدت لتشمل عدة مناطق من العالم، تحت شعار «باقية وتتمدد»، يبدو أنها باتت تعيش لحظة يمكن تسميتها بـ«تنحسر ثم تزول»، ليمرّ العالم إلى مرحلة تاريخية جديدة، شبيهة بالمرحلة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية.

لنعتبر أنّ مرحلة «داعش»، هي إحدى الدورات التاريخية التي يقتضيها الانتقال من مرحلة ما إلى مرحلة تاريخية جديدة. ولن نخوض هنا في تفاصيل نشأة هذه الظاهرة، لأنّها الآن تخطو خطواتها الأخيرة نحو الاندثار والزوال. وعليه فإن الأفضل هو النظر إلى ما بعد هذه المرحلة والاستفادة من الدروس التي مرت بها البشرية جراء هذه الظاهرة وخصوصاً المجتمعات العربيّة.

في هذه اللحظة التي تعمل فيها عدة أطراف على إنهاء ظاهرة «داعش»، نجد أنفسنا، مضطرين للوقوف عند مفهوم استئناف الحضارة الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في قمة الحكومات العالمية التي احتضنتها دبي «لا مفر للبشرية من استئناف دورتها الحضارية، ولا مفرّ للعرب خصوصاً أن يستأنفوا فعلهم الحضاري». ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

إنّ حجم التوحّش الذي مارسه هذا التنظيم الإرهابي، وحجم الخراب النفسي والاجتماعي، الذي خلّفته أعمال هذا التنظيم، وفروعه من الجماعات القروسطية، كفيل بأن يلقّن المجتمعات دروساً كبيرة في ضرورة الارتفاع عن مرحلة «التوحش» إلى مستوى العقلانية الكاملة التي تسعى إلى بناء الإنسان وإلى تحقيق سعادته التي هي مطلب الأديان السماوية ومطلب الفلاسفة والمفكرين القدامى والمعاصرين.

إذا كان فعل الحرب، دليلاً على أن البشرية لم تبلغ مرحلة النضج الكاملة، فإن الظاهرة الإرهابية التي نخرت مجتمعاتنا الإرهابية، لا يمكن توصيفها إلا بكونها نوعاً من الجنون، ونوعاً من التوحش سعى إلى إلغاء كل مكتسبات الحضارة الحديثة. وعليه فإن تجاوز هذه المرحلة، يجب أن يبدأ أولاً وقبل كل شيء من عودة الوعي إلى الذهنية العربية، حتى تدرك حجم المآسي التي ارتكبها الشباب العربي الذي انخرط في مشاريع التنظيمات الإرهابية، بحاضر أمته وبمستقبلها.

إنّ عالم ما بعد «داعش»، يفترض أن يكون فيه للعرب دور مركزي، لأن للعرب كلّ الإمكانيات التي تجعل منهم أمة منخرطة في عصرها منتجة للمعرفة مستقطبة للكفاءات، وأمة مبدعة في كل المجالات، الاقتصادية والعلمية والثقافية. وهناك من الفرص المتاحة ما يجعل إمكانية تحقيق هذه الأهداف الحضارية الكبرى. وعلينا الاستفادة من كل تلك الفرص، وإلّا سنضيع فرصة «استئناف الحضارة».

لا يجب الخجل من كون «داعش» ومشتقاتها، هي نتاج أوضاع عربية أنتجتها، لأنّ تلك الصورة هي من واقعنا العربي، وألمانيا سبق وأن أنتجت هتلر بأفكاره النازية، وإيطاليا أنتجت موسوليني، والحضارة الغربية الحديثة التي قامت على أفكار التنوير وعلى قيم الإخاء والعدالة، أنتجت الظاهرة الاستعمارية بكلّ مخلفاتها المأساوية، والتي تضررت منها كل شعوب العالم التي لم يكن لها حول أو قوة في الصراع بين القوى العالمية الكبرى آنذاك. فهل بقيت أوروبا حبيسة ذلك التاريخ؟

ونجد في كلمة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ما يؤكّد مسؤولية العرب في التأخر الحضاري الشامل. حيث قال في قمة الحكومات العالمية إن انشغاله بحالة العالم العربي ليس وليد اليوم بل بدأ برسالة صريحة وجهها سموه إلى الحكومات العربية منذ أكثر من 12 عاماً مضمونها أنه عليكم أن تتغيروا أو أنكم ستغيرون. والواقع أثبت أن النظام الذي رفض التغيير الذاتي والمضي في خطوات إصلاحية، وجد نفسه يغيّر قسريّا.

هذا الآخر الذي نتهمه منذ عقود بالتآمر علينا، هو في الواقع يعمل من أجل ضمان مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية، وهو يتغذى من حالة غياب الفعل العربي، ومن غياب حالة الدفاع عن النفس لدى العرب. وهذا الوضع استفادت منه أطراف دولية عدة.

إنّ عالم ما بعد «داعش»، يفترض أن ينظر للعرب، من زاوية أولئك العلماء الذين يثبتون أنفسهم في أكبر المراكز العلمية والبحثية في العالم. ومن زاوية القادة الذي ينجحون في تغيير الواقع نحو الأفضل، وينجحون في تحقيق النمو الاقتصادي ويصنعون تنمية بشرية متكاملة. إن عالم ما بعد «داعش»، هو عالم الإنسانية الرحب، الذي يجب أن تلغى فيه تلك الحقيقة الفلسفية المرة «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان». فالبشرية ذاقت من القتل ومن التخريب ومن التدمير، ما يجعلها قادرة على إدراك أن هذا العنف أياً كان مأتاه، هو إعادة للبشرية إلى مرحلة التوحش.

رسالة استئناف الحضارة، التي صدرت من دولة عربية هي دولة الإمارات التي استطاعت أن تستأنف دورة حضارية ناجحة، يجب أن يتلقفها العرب قبل غيرهم من الشعوب الأخرى، لأنهم في حاجة ماسة إلى دخول عالم جديد، والنظر بعيون أخرى للواقع وللآخر، وللماضي وللحاضر من أجل مستقبل مختلف. وهذه مسؤولية النخب المثقفة التي يجب عليها أن تمتلك رؤى جديدة تتماشى والواقع المتغيّر. سيتنهي «داعش» إلى مزبلة التاريخ، ولكن هل طرحنا الأسئلة الحقيقية: ماذا نريد؟ وكيف ننهض من جديد؟