أحمد المرشد

فكرت كثيرا في فكرة مقال هذا الأسبوع بعد أن غيرت رأيي في اللحظات الأخيرة لأني كنت قد عزمت الأمر في البداية على تجاوز السياسة وأزماتها، خاصة علي خلفية مقاليي على مدى الأسبوعين الماضيين عن الملاذ العربي الآمن في الجامعة العربية، وقبلها كتبت عن التكامل الاقتصادي العربي.. حلم أم إرادة؟!

ولكن الظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة والتي تجعلنا جميعا نعيش كما يقول البعض: «على صفيح ساخن» لا تجعل المرء منا أن يبتعد كثيرًا عن عالم السياسة، فتهديدات التنظيمات الإرهابية تهدد الدولة الوطنية العربية، خاصة مع تصاعد خطورة هذه الكيانات العنكبوتية لتستهدف شرعية الدول وبقاءها ككيانات سياسية موحدة مستقرة، الأمر الذي يستلزم ضرورة طرح رؤى موحدة أساسها التضامن العربي لدرء الأخطار عن بلدان هذا الوطن بإرادة عربية شاملة تعمل على سلامة المجتمعات والشعوب العربية وعدم السماح للدول الإقليمية أو غيرها بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.. فالتنسيق وتوثيق الصلات بين العرب أصبح ضرورة ملحة في الوقت الراهن، في ظل الأزمات المزمنة التي تعصف بالكثير من الدول.

غير أن ثمة إنجازًا مبشّرًا أعلنت عنه بعض المراصد خلال الأيام الماضية ويتمثل في تراجع قوة التنظيمات الإرهابية التي عاثت فسادًا ودمارًا وقتلاً في المنطقة، ومن حسن الحظ أن أكثر من تقرير عربي ودولي أثبت هذا التراجع. هذا بالإضافة الى التقارير الإعلامية التي كشفت النقاب عن إسهامات السعودية الضخمة وجهودها في محاربة الإرهاب على المستوى الإقليمي والدولي، في حماية أرواح آلاف المدنيين في سوريا والعراق واليمن، عبر المشاركة الفعالة في التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» الإرهابي وإحباط عمليات إرهابية. لم تكن هذه المساهمة وليدة الساعة أو قادمة من فراغ، فكان الاستعداد السعودي لهذا الأمر مبكرًا، حيث استند الى منظومتها الأمنية والاستخباراتية.

لقد حشدت السعودية عسكرييها ومفكريها واستراتيجييها، لتخرج بفكرة رائعة كانت عبارة عن إنشاء مركز للحرب الفكرية يتبع وزارة الدفاع، ويعنى بمكافحة الفكر المتطرف، الى جانب إنشاء مرصد رقمي للتطرف، يهتم بتحليل ورصد جميع سموم الإرهابيين، ويأتي استمرارًا لجهود السعودية في مواجهة تلك الآفة الخطيرة.

ومما يحسب للسعودية في هذا المضمار، أنها بادرت بالعمل على المواجهة الفكرية للإرهاب بالتزامن والتساوي مع المواجهة الأمنية، لتكون صاحبة الدور الريادي في هذه الحرب الشرسة، خاصة وأنها تجمع حاليًا بين الاستراتيجية السياسية والأمنية والعسكرية والفكرية والرقمية لمكافحة آفة الإرهاب، محليا وإقليميا وعالميا. وكان من الطبيعي أن تستغل السعودية قيادتها للتحالف العربي في حربه باليمن وكذلك قيادتها التحالف الدولي لمكافحة (داعش) وبروز دورها العسكري المباشر أثناء القصف المكثف على مراكز هذا التنظيم الإرهابي، لتؤسس 3 مسارات نوعية في محاربة الإرهاب والتطرف والعنف:

 الأول: التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب، بغرفة عمليات متطورة ومقرها الرياض، وهي معنية بتنسيق جهود جميع دول العالم الإسلامي.

الثاني: مركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع، ويعد أول وأكبر مركز في العالم تكون مهمته مكافحة الفكر المتطرف على مستوى العالم.

الثالث: المرصد الرقمي للتطرف، ويقوم برصد وتحليل جميع ما يطرح إلكترونيا من قبل الإرهابيين والمحرضين والمتعاطفين مع الإرهاب، وتزويد الجهات الاستخباراتية للدول الصديقة إقليميا وعالميا بهذه البيانات. ويكفي نجاحا لهذا المرصد، أن موقع التواصل الاجتماعي العالمي «تويتر» اعتمد على توصياته ليغلق بعدها من 500 ألف حساب.

لماذا كانت السعودية رائدة في هذه الحلبة؟ لا ينكر جاحد حجم المشاركات السعودية في استقرار المنطقة، ناهيك عن إنها من أكثر الدول المستوعبة لخطر آفة الإرهاب، وبحكم ثقلها الديني والقومي والجغرافي وخبرتها الكبيرة في مجابهة الإرهاب، سخرت إمكاناتها كي تحارب الإرهاب عسكريا، وفكريا، ورقميا. 

كما أن السعودية بحكم تجاربها المريرة مع تفجيرات القاعدة في عدة مدن بدءا من تسعينيات القرن الماضي، فهي تملك القدرة على مواجهة الإرهابيين ورصد اتصالاتهم وتحليل كل ما يأتي لها من معلومات وبيانات. وللأسف الشديد، فإن بعض الحكومات العربية لم تستوعب الخبرات السعودية في زمانها، فتعرضت لخسائر فادحة، وعلى سبيل المثال تأخر الأشقاء في العراق في مواجهة تنامي قوة وقدرات «داعش» رغم التحذيرات السعودية الكثيرة لبغداد، ولكن العاصمة العراقية أصرت على تجاهل التعاون والمشاركة في التجربة، فكان كل ما ر أيناه من أراضي وثروات ضاعت على شعب العراق حيث وضع «داعش» يده على الأرض وما بها من ثروات. حتى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لم يحرك ساكنًا في بداية الأمر، رغم قيادة بلاده للتحالف الدولي الذي يقتصر عمله على العمليات الجوية فقط، وهو خطر بالغ حيث أن القصف الجوي لم يحقق الهدف منه، بل استفادت منه «داعش» في التمدد في معظم الأراضي العراقية والسورية.

وإذا تحدثنا عن سوريا تحديدًا، فلعلّ من المساهمات السعودية الفعالة، ترحيب الرياض بالتعاون لإقامة مناطق آمنة في دمشق، كذلك قدمت المملكة كل ما تستطيع لمحاربة الإرهاب في كل مكان، ولعل الإدارة الأمريكية الجديدة بنهجها في مواجهة الإرهاب ورعاته وتحميل الحكومة الإيرانية مسؤوليتها، تسهم في التعجيل بهزيمته والقضاء عليه.

كل ما هو مطلوب في الوقت الراهن الحفاظ على وحدة الأراضي في سوريا والعراق، والتوصل الى حلول نهائية توفر الأمن والاستقرار للشعوب حتى تتجنّب مهازل الترحيل والنزوح والتهجير، ولكي يتحقق هذا يجب تنسيق جهود دول المنطقة من أجل تحقيق السلام٬ وإنهاء حالة الصراع المستمرة في منطقة الشرق الأوسط خاصة وأنه لا يمكن التهاون في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالمان العربي والإسلامي٬ وهي مرحلة مخاض صعبة جدا تتطلب أن يقف الجميع لتحقيق الاستقرار فيها. 

والمشكلة أن الغرب ربط بين الإرهاب والإسلام، وهذا أمر مرفوض، فالإسلام لا يقبل التطرف، ولكن «داعش» تنظيم إرهابي ينشر الإرهاب دائما٬ ولا علاقة له بالإسلام أبدا، فمن يقتل العزل بلا رحمة لا يرتبط بالإسلام، ومن يشوه سمعة الإسلام والمسلمين والعرب لا علاقة لهم بالإسلام، ومن يدع المسلمين يستنزفون بعضهم بعضا في سوريا والعراق وليبيا واليمن وفي كثير من الأماكن الأخرى لا علاقة له بالإسلام، ومن يدمر المدن الحضارية والتاريخية في سوريا والعراق واليمن لا علاقة له بالإسلام، ومن حول عمدًا أبرز مدن الحضارة العربية والإسلامية إلى مسارح للمنظمات الإرهابية والقوى الأجنبية والحروب بالوكالة والاستنزاف لا علاقة له بالإسلام.

وإذا كنا تحدثنا طويلاً عن الخبرات العسكرية والاستراتيجية والفكرية السعودية في مواجهة الإرهاب، اعتقد أنه لزاما أن نشير هنا الى الزيارة المهمة التي قام بها وزير الخارجية السعودية عادل الجبير لبغداد، فهي مبادرة تدفع حقا في إعادة العراق الى حضن العرب ودعمه في عملية إعادة التأهيل بعدما مرّ به من نكبات وويلات. فالرياض تقول للجميع عبر هذه الزيارة المهمة التي وجهت ضربة لعواصم أخرى بالمنطقة، إنها لن تترك العراق فريسة لهؤلاء، واعتقد أن الرسالة السعودية بلغت آذان الجميع، ومفادها أن السعودية تعود بقوة لتكون اللاعب رقم واحد بالمنطقة الذي يتحمل مهامه ودوره الريادي ليقف بجوار العراقيين للنهوض من كبوتهم.. ولعلّ من رسائل زيارة الجبير للعراق أيضا، أن العراق لن يكون فريسة بعد الآن لأي قوى إقليمية، فهناك من سيسانده ماليًا وعسكريًا، ليقضي تمامًا على سنوات الفتنة الطائفية والمذهبية.

إجمالاً.. نقول إن السعودية تقود مبادرة حقيقية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوطن العربي، بعد أن غابت الكثير من القوى التي كان يجب أن تكون مؤثرة وفاعلة عن المشهد برمته، ولكن السعودية أبت أن تترك الساحة هكذا، لتسهم بكل ما تملك من خبرات في محاربة آفة الإرهاب.