إياد أبو شقر

كان المطلب الأول «ملاذات آمنة» و«مناطق حظر طيران»، إلا أن إدارة باراك أوباما، المتحمّسة لإعادة تأهيل إيران لاعباً إقليمياً يخدم الغايات الغربية الاستراتيجية البعيدة في قلب العالم الإسلامي، عن علم أو جهل، رفضت... ودأبت على الرفض.

ورغم الفظائع والتهجير، كانت ذريعة الرفض الأميركي المتكرّر، مثيرة للسخرية؛ إذ زعمت واشنطن أن «الملاذات» و«مناطق حظر الطيران» باهظة التكلفة سياسياً وعسكرياً ومالياً، وقد تجرّ إلى التورط بإرسال جنود على الأرض... بعدما باشرت سحب جنودها من العراق.

يومذاك لم يقسْ أحد المسافة بين قاعدة إنجرليك التركية... القريبة جداً من الحدود السورية والملاذ المقترح.

لم يتساءل أحد عن سبب الإصرار على الرفض إذا كانت أنقرة - بخلاف موقفها إبّان غزو العراق - مستعدة لوضع القاعدة (القائمة بجوار مدينة أضنة) في تصرّف القوات المُولجة بحماية «الملاذات» و«مناطق حظر الطيران»! ثم، بعدما تصاعد التدخلان الإيراني والروسي في سوريا، لم يسأل أحد لماذا لم تجد طهران وموسكو التكلفة عالية... بينما وجدتها واشنطن كذلك؟!

على أي حال، انتهى الموضوع ووصلت الرسالة. واتضح مضمونها أكثر بعد التغاضي عن هجمات النظام السوري الكيماوية، واستخدامه البراميل المتفجرة، وتسريعه إيقاع التهجير والفرز السكاني... ثم التدخل الروسي العسكري المباشر الذي كانت أهم ثمراته:

أولاً، إسقاط مدينة حلب وتسليمها للنظام.

وثانياً، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في المنطقة الحدودية، إفهام الأتراك أن الغرب لن يقف معهم في أي مواجهة بينهم وبين روسيا.

أكثر من هذا، اكتشفت أنقرة - ربما متأخرة - أن واشنطن لا تكترث بـ«سيادة أراضيها ووحدتها»، بينما يتطوّر التعاون الأميركي العسكري مع الجماعات الكردية الانفصالية في سوريا بحجة مقاتلة تنظيم داعش. وهنا نتذكر جيداً كيف أسهبت واشنطن في الثناء على ما اعتبرته «مُنجزات جبارة» للميليشيات الكردية في معارك عين العرب ضد «داعش»، مع العلم أن الغطاء الجوي الأميركي نفسه لو قدّم لفصائل الجيش السوري الحر في الوقت المناسب - بدلاً من سخرية الرئيس أوباما من مكوّناته - لما تفاقم الوضع إلى الحد الذي نراه.

قبل بضعة أشهر كادت مدينة الباب، بمحافظة حلب، تتحوّل في أذهان متابعي الشأن السوري إلى «ستالينغراد» جديدة! إذ تقدمت قوات الجيش الحر تدعمها القوات التركية في إطار ما سمي عملية «درع الفرات» باتجاه الباب لإخراج مسلحي «داعش»، بعدما كان التنظيم الإرهابي قد خسر السيطرة على مدينة جرابلس الحدودية للجيش الحر والأتراك... ومدينة منبج للميليشيات الكردية المدعومة من واشنطن.

وطالت معركة الباب، وكادت تقع احتكاكات عندما اقتربت ميدانياً في محيط المدينة الصغيرة عدة قوى كل منها ينفذ مشروعه أو مشروع داعميه. وبالنتيجة، بموجب ما يشبه بـ«كلمة سر»، سُمح لأنقرة وحليفها السوري بـ«الانتصار» في الباب. غير أن الفصل الثاني من «درع الفرات» ما زال بعيداً عن التوافق، وسط تشابكات إقليمية ودولية مريبة.

لقد دأبت أنقرة على الإعلان بصوت عالٍ - كعادتها - اعتزامها ليس فقط فرض «المنطقة الآمنة» بين مدينة أعزاز غرباً وجرابلس على نهر الفرات، بل أيضاً مواصلة التقدم للسيطرة على منبج، ومنها باتجاه الجنوب الشرقي إلى محافظة الرقّة، لكن هذا الموقف التركي المعلن يعني عملياً الاشتباك مع الميليشيات الكردية الانفصالية المدعومة من واشنطن.

في المقابل، فإن هذه الميليشيات الكردية التي «زوّقت» واشنطن منظرها وأعطتها اسما جذاباً هو «قوات سوريا الديمقراطية» بعدما ضمّت إليها واجهات عشائرية عربية وشذرات من أقليات دينية وعرقية على سبيل «العلاقات العامة»، لديها مشروعها «القومي» الخاص، ومن أجل تحقيق هذا المشروع نراها مستعدة لفعل أي شيء ووضع نفسها تحت إمرة أي كان.

وحقاً، مع تركيز الاهتمام على مسألة تحرير مدينة الرقّة، التي حوّلها «داعش» «عاصمة» له، تبرز تناقضات فظيعة يتوقّع أن تحدّد تداعياتها مستقبل ما تبقى من كيان - (أو كيانات) - قابل للحياة على أرض سوريا.

مدينة منبج هي اليوم «نقطة تقاطع» كل هذه التداعيات، ومن خلفها التناقضات الكبرى، التي من شأنها رسم الخريطة المستقبلية... ربما، ليس في سوريا فحسب، بل في الإطار الأوسع من سوريا.

منبج غدت أشبه بمدينة دانزيغ - أو غدانسك البولندية - التي جعلها موقعها الاستراتيجي في شمال بولندا مُطلة على بحر البلطيق «منطقة فاصلة» بين الجزأين الشرقي والغربي من بروسيا، ذلك الكيان العظيم الذي بُنيت عليه وحدة ألمانيا.

لقد أسهمت هذه المدينة - الميناء، التي كانت عاصمة إقليم بومرانيا، وقوام «الممر البولندي» إلى البحر، بنشوب حروب وتعرّضت لحصارات، وخرج منها ليخ فاونسا ونقابة «التضامن» العمالية المناوئة للحكم الشيوعي، ما هدّد بحرب عالمية ثالثة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي.

دانزيغ كانت نقطة تلاق وبؤرة صراع هويات بين بروسيا وبولندا وروسيا، التي ما زالت تحتل الطرف الشرقي من بروسيا التاريخية. وفي هذا الجزء الشرقي تقع مدينة كونيغسبورغ (كالينينغراد) مدينة الفيلسوف العظيم إيمانويل كانط!

أيضًا، منبج - العربية الهوية -، مسقط رأس البحتري وعمر أبو ريشة ومركز سلطة أبو فراس الحمداني، تجد نفسها نقطة تلاقٍ وبؤرة صراع بين العرب والأتراك والأكراد. إنها أسيرة التاريخ والجغرافيا مثل غدانسك، لكن من دون البحر.

منبج تدفع الآن ثمن مواقف واشنطن المُلتبسة وروسيا التدميرية من الأزمة السورية برمتها، وهي تدفع أيضاً ثمن الجشع الانتهازي عند بعض الأكراد المستغلين حالة انحطاط عربية، وعملية إعادة نظر في الهوية السياسية عند حكام تركيا وإيران.

اليوم عندما تبرّر أنقرة تمدّد «درع الفرات» إلى الرقّة بكون الرقّة - مدينة ومحافظة - منطقة عربية لا أكراد فيها، تتغاضى واشنطن عن تمدّد «غضب الفرات» الكردية لخلق واقع ديموغرافي جديد، ولو بدعم روسي. وهذا الواقع يرفد مشروع الانفصاليين الأكراد في شمال سوريا، الذي انتكس مؤقتًا بعد تحرير الباب، وحال دون وصل الأكراد «جيب» عفرين الكردي غرباً، بباقي مناطقهم شرقاً على طول الحدود السورية التركية.

نعم، منبج باتت اليوم «دانزيغ سوريا» بمساهمة أميركية!. .