أمين ساعاتي

 المتابع لما تصدره مراكز الدراسات الغربية في هذه الأيام يلاحظ أن المفكرين المتخصصين يبشرون بقرب تقوض النظام الليبرالي الغربي، ويقولون إن النظام الليبرالي الغربي بلغ مرحلة الشيخوخة، وآن له أن يبرح الميدان، وأن يفسح المجال للقادم البديل الذي يحمل في معطفه مقومات حمل راية العهد الجديد.


والقادم البديل هو ــ إذا جاز التعبير ــ نظام ليبرالي شرقي الملامح هدفه توجيه مسار الاقتصاد الدولي نحو موارد جديدة، والسعي جديا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية في بلدان ظلت تئن من أنانية النخبة الجائرة حتى أنهكتها أمراض الشيخوخة وأصبحت لا تقوى على مواكبة العصر والبقاء والاستمرار.
نلاحظ كثيرا من الأسباب التي تطفو على سطح الأحداث، وتشير إلى أن الغرب يدخل مرحلة الأفول، وأن الحضارة الغربية التي بدأت تباشيرها الأولى في القرن الثامن عشر الميلادي يبدأ أفولها مع بداية القرن الحادي والعشرين.
وهناك أسباب ومؤشرات تؤكد أن الغرب بدأ مرحلة الاسترخاء، ويستعد إلى تسليم مفاتيح الحضارة إلى الشرق.
لقد أحكم الشرق قبضته حول خاصرة الغرب، فمن الناحية الاقتصادية نهضت الصين، وسجلت كثيرا من النقاط على حساب الاقتصاد الأمريكي تدعمها في ذلك روسيا الاتحادية، وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية وبقية دول النمور الآسيوية.
وفي تصريح أطلقه لافروف وزير خارجية روسيا عقب مؤتمر ميونيخ الأمني، الذي عقد الشهر الماضي نفى فيه نيات روسيا نسف النظام الليبرالي العالمي، مع أن هذا الوزير يمثل بوتين، الذي يكرس كل قوته للقضاء على النظام الليبرالي الغربي، الذي سبق أن دمر الاتحاد السوفياتي وألغى وجوده، ومن ناحيته فإن فولفجانج أيشبنجر رئيس مؤتمر ميونيخ الأمني ألمح إلى أن الغرب يكاد يأفل من تلقاء نفسه، وأن عصر ما بعد الغرب قد بدأ وقوة أمريكا وأوروبا تتراجع.
كان حلم النظام الدولي الليبرالي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية إحلال عالم جديد بنظام اقتصادي حر، وعلمنة المجتمعات على أساس رفع مستوى المعيشة وتحقيق أعلى درجات الرفاهية، غير أن المحصلة اليوم بعد سبعة عقود انتشار معدلات البطالة في كل دول العالم، وازدهار تجارة المخدرات على مستوى العالم وتزايد جماعات الإرهاب والفساد المالي والإداري، وآخر المستجدات على طريق تراجع النظام الليبرالي الغربي هو أن رأس النظام الغربي، الذي وصل إلى سدة البيت الأبيض للتو الرئيس ترمب يرى أن أوروبا يجب أن تتغير إلى أوروبا جديدة.
وإذا عدنا هنيهة إلى الوراء نلاحظ أن الأوروبيين حينما طرح عليهم مشروع الاتحاد الأوروبي في بداية الستينيات الميلادية كانت الشعوب الأوروبية منحازة إلى نموذج الوحدة الشاملة، لأن أوروبا القارة العجوز تورطت في حربين عالميتين طاحنتين خلال ربع قرن فقط.
ولكن الجغرافيا والتاريخ بعد سبعة عقود لم يقبلا فكرة الوحدة الشاملة، لأن أوروبا مجموعة من الأعراق والثقافات واللغات والملل والنحل، وأمام هذا الكم الهائل من العوائق الجيوسياسية تراجعت المطالب الوحدوية، واكتفت الشعوب الأوروبية بأن يقوم اتحاد يراعي المصالح الاقتصادية لكل الدول الأوروبية الأعضاء.
ورغم ما كان يبدو أن المسيرة الاقتصادية الأوروبية تسير في الاتجاه الصحيح انفجرت عام 2008 الأزمة الاقتصادية في اليونان، وكادت الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي تعلن إفلاسها، ولكن الاتحاد الأوروبي من منطلق مسؤولياته تجاه الدول الأعضاء منح الخزينة اليونانية جرعات من المساعدات العاجلة لإنقاذ الاقتصاد اليوناني المتداعي، وقبل أن يتشافى الاقتصاد اليوناني اندلعت أزمة اقتصادية في البرتغال وأعقبتها أزمات مماثلة في إسبانيا وإيطاليا.
وأمام سلسلة الأزمات الاقتصادية التي أخذت تضرب اقتصادات بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فإن جسم الليبرالية الغربية بدأ يتعرض لمزيد من أمراض الشيخوخة، وما زال الاقتصاد الأوروبي يرسل المؤشرات المنذرة للأزمات القادمة، بل إن بعض المفكرين السياسيين والاقتصاديين يتوقعون سقوط التجربة الأوروبية، كما سقطت التجربة السوفياتية، بل نكاد نلحظ أعراض تفكك منطقة اليورو من خلال الأزمة اليونانية في عام 2008 التي لا تزال تهدد استمرار وبقاء الاتحاد الأوروبي.
كذلك من الأشياء التي تفت في عضد الاتحاد الأوروبي الاستفادة العرجاء من قيام الاتحاد الأوروبي، أي أن ألمانيا هي المستفيد الأكبر من قيام الاتحاد، وليس صحيحا أن قيام الاتحاد هو في مصلحة كل دول الاتحاد، ولذلك تفوقت ألمانيا كقوة اقتصادية كبرى داخل منطقة اليورو خاصة، وداخل الاتحاد الأوروبي عامة، بينما كثير من دول الاتحاد عبرت عن استيائها من تفوق ألمانيا، ومنها إسبانيا والبرتغال وإيرلندا واليونان.. حتى فرنسا التي تعرضت لأزمة اقتصادية في عام 2014 لحقت باليونان وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وانتقدت استفادة ألمانيا الكبرى من الاتحاد.
إن قضية تفكك الاتحاد الأوروبي باتت مطروحة عند المفكرين الألمان، لأن ألمانيا هي الدولة التي تتحمل القسط الأكبر من مسؤولية دعم دول الاتحاد وتدفع من خزينتها أموالا هائلة لمعالجة كل الأزمات الاقتصادية التي تعانيها دول الاتحاد الأوروبي.
ولذلك هناك شريحة من المفكرين الاقتصاديين الألمان ينادون بفكرة تفكيك الاتحاد الأوروبي حتى لا تصبح ألمانيا وحدها هي المسؤولة عن إنقاذ اقتصادات الدول التي تترنح اقتصاديا.
أما بالنسبة لبريطانيا، فإن مؤيدي الانسحاب يقولون إن خسائر الانسحاب الآن أفضل بكثير من خسائر الانسحاب إذا ظلت بريطانيا في الاتحاد حتى تفكيكه المحتمل، بعد التفكيك فإن الاقتصاد الأوروبي كله سيتعرض لأزمة شاملة، وسيدفع الجميع ثمن استمرار اتحاد يتداعى ويئن من أمراض كثيرة.
إن المتفائلين الغربيين يقولون إن المشكلة الرئيسة التى تهدد الحضارة الغربية الآن هي "الديون" الضخمة التي لا تقوى بعض دول أوروبا وأمريكا على الوفاء بتسديدها، وإن هذه القضية ــ رغم جسامتها ــ إلا أنها تحتاج إلى عقول فتية شابة ترسم طريق الخلاص منها، ووضع الحلول الناجعة لها.
ونظرا لأن سبب السقوط هو انتشار الفاسدين الذين انتشروا في كبريات المصارف والشركات الكبرى، الذين نزلوا بالمصارف والشركات إلى الهاوية والإفلاس، فإن المطلوب هو تأهيل مديرين تنفيذيين ذوي كفاءة ورؤية يقومون بمسؤولية إعادة الهندسة والبناء.