فـــؤاد مطـــ

ها هي إندونيسيا ذات الأكثر من 250 مليون نسمة ورابع دولة من حيث عدد السكان، يتجدد حضورها في البال العربي مع زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لها ضمن جولته التي شملت ماليزيا ذات الثلاثين مليون نسمة كمحطة أولى ثم سلطنة بروناي. وعندما نقول إن إندونيسيا حاضرة في البال العربي فإننا نستحضر من الذاكرة حضورها الأول قبل عقود يوم 18 أبريل (نيسان) 1955 أثناء مشاركة الرئيس (الراحل) جمال عبد الناصر في مؤتمر باندونغ كيف أنه من خلال حركة عدم الانحياز وعلاقته المتميزة مع الرئيس (الراحل) أحمد سوكارنو زرع في الذاكرة العربية أهمية إندونيسيا كبلد تجد فيه الأمة سنداً نوعياً في الأزمات السياسية الصعبة.


بعد رحيل رموز حركة عدم الانحياز وبالذات الركن العربي في الحركة جمال عبد الناصر والركن الإسلامي فيها أحمد سوكارنو، وكذلك رحيل بعض نجوم تلك الحركة البانديت نهرو وشوان لاي والماريشال تيتو، بدأ بريق الحركة في الخفوت بالتدرج. ثم تكاثرت الصراعات والاحترابات والأزمات الاقتصادية التي عانت من وطأتها دول كثيرة، وبالتالي باتت اهتمامات العرب بالدولة الصديقة العريقة دون اهتمامات المستوى المطلوب. ثم تأتي الزيارة التي قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز تشكِّل بداية استعادة إندونيسيا إلى البال بجناحيْه العربي والإسلامي. وهي استعادة ذات جدوى على أكثر من صعيد. فهي تثبيت لعزيمة دولة إسلامية عريقة تجاه قضايا الأمتين، التي تتحمل المملكة العربية السعودية وبنسبة عالية مسؤولية الاهتمام بها وأبرزها على سبيل المثال لا الحصر السعي لجمع الصف الإسلامي - العربي بعدما باتت مساحة التباعد تتسع. كما هنالك موضوع تنقية المشهد الإسلامي من شوائب موجات من التطرف والتعصب والإرهاب أوصلت بعض الكيانات إلى ما يعيق خطط التنمية والتطوير.
وإلى ذلك، هنالك الجدوى الأهم في حال أنه بات من مصلحة الأمتيْن العربية والإسلامية التفكير بجدية في ابتكار صيغة جديدة لفكرة عدم الانحياز. والملك سلمان هو الرمز الذي يحقق التفافاً حوله من دول عربية وإسلامية وكذلك بعض الدول الصديقة التي ترى في صيغة الحياد خير سبيل لكي تبقى في منأى عن التدخل في شؤونها أو إشهار الحرب على أطياف معترضة أو منتفضة في هذه الدول، وعلى نحو ما حصل وما زال في سوريا التي وصلت الحال بدولة عظمى مثل روسيا إلى أن تتجاوز أصول التعامل مع الآخرين، وخاضت إلى جانب النظام البشاري حرباً أفرزت بالملايين جرحى وقتلى ولاجئين ومهجَّرين ومعاقين، فضلاً عن دمار بفعل القصف الجوي من جانب أحدث مقاتلات روسية إلى جانب طائرات من سلاح جو النظام السوري الروسية أصلاً وتغطية ميليشياوية ومذهبية من جانب النظام الإيراني.
جاءت زيارة الملك سلمان في الوقت الذي دخلت فيه الخيارات الحربية في بعض الديار العربية سنتها الخامسة ومن دون أن يكون هنالك بصيص أمل في أن الحل العسكري سيؤدي الغرض. هنا تستوقفنا ملامح تعديل في المسار لمسناه بالذات بالنسبة إلى المحنة السورية والموضوع الأكثر تعقيداً ونعني به اليمن، ناهيك بما يجري في العراق وليبيا. وعندما يركز الملك سلمان في كلمات ألقاها خلال الجولة على الحل السياسي ويقرن ذلك بالدعوة إلى تعزيز مبادئ التسامح، فكأنما يريد من ذلك الإيحاء بأن الأمتين على موعد ليس بالبعيد من أجل تغليب الحوار على المواجهات وبالحوار الصادر عن نيات طيِّبة تصطلح الأمور.
وما قاله في جولته الآسيوية التي تَواكَب الترحيب الشعبي العفوي فيها مع أعلى درجات الترحيب الرسمي، قد نسمعه على ما تتمنى شعوب الأمتين سماعه، في صيغة مبادرة تشد القلوب المتنافرة إلى التآلف وتجعل أحاديث الحوار والتضامن تحل محل ما تعيشه المنطقة من المآسي الناشئة عن تدخلات الأغراب في شؤون بعض دولها. والمبادرة التي نشير إليها تتمنى الأمة انطلاقها من القمة العربية الدورية التي سيستضيفها الأردن يوم 28 مارس (آذار) الحالي. وعندما يتحول كلام الملك سلمان عن التسامح إلى ممارسة ويؤخذ أيضاً بدعوته إلى حوار الأديان والثقافات الذي يعزز مبادئ التسامح، عندها يصبح الموقف أكثر صلابة إزاء مفاجأة تشبه النار تحت الرماد تتمثل في أن الرئيس دونالد ترمب أوفد لجنة برئاسة صهيوني متعصب إلى تل أبيب للبحث مع نتنياهو في موضوع نقْل مقر السفارة الأميركية إلى القدس.
والمبادرة التي نعتبرها مأمولة الحدوث من شأنها قطْع الطريق على حلول غير مرحب بها تفرضها قوى دولية كأمر واقع وغرضها من ذلك ليس إحلال الأمان في هذه الدولة أو تلك، وإنما لتقليل حجم الإخفاق الذي انتهى أو سينتهي إليه الدور المؤذي الذي مارستْه بذريعة مناصرة نظام. وهذا ينطبق في الدرجة الأولى على روسيا البوتينية التي تقوم منذ أيام بتسويق أفكار لإيجاد تسوية للموضوع السوري الذي كان عبارة عن أزمة قبل اقتحام روسيا حربياً له ثم بات عبارة عن مجموعة فواجع نتيجة أنها اعتبرت سوريا ساحة اختبار لقدرتها على أن تستحوذ على موطئ قدم ثابت في المنطقة.
وعندما تلتف الأطراف العربية ومن دون استثناء حول المبادرة المأمولة فإن صوت الرفض للتدخلات الأجنبية روسية كانت أو أميركية أو إيرانية سيعلو على أي تدخلات أجنبية، وتجد الأمة نفسها أنها ستصبح آمنة مطمئنة ما دامت على الصراط المستقيم الذي تبدأ خطوته الأولى باعتبار التسامح الذي يدعو إليه الملك سلمان بن عبد العزيز بمثابة ترياق لإزالة السموم التي تراكمت في الكيان العربي.
خلاصة القول إن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز كان فيما سمعناه منه خلال جولته في القلب الآسيوي يبعث بنداء إلى مَن عليهم أن يتعقلوا. بل إنه يدعو للتسامح من أجل خير العمل. عسى ولعل يكون الصدى بمثل صفاء نيات الملك سلمان تجاه الأمتين.. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .