هادي اليامي

جاءت زيارة الجبير لتحرك الماء الراكد في أرض العراق، حيث وجدت قبولا واسعا وسط القيادات السياسية والقواعد الشعبية، وعرض الضيف السعودي المرموق تقديم الحلول، وتوفير المساعدات

أثارت الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية، عادل الجبير، إلى بغداد، ردود أفعال كثيرة في الداخل العراقي، وأحدثت حراكا واسعا وسط مختلف الأطياف السياسية، حيث عدّها كثير من المراقبين فرصة سانحة لاستعادة الوجود العربي في أرض الرافدين، التي كانت ذات يوم مركز الحضارة العربية والإسلامية، وتقليص نفوذ إيران، التي استغلت الأحداث التي شهدها العراق بعد الغزو الأميركي، وعدم وجود سلطة محلية قادرة على الإمساك بزمام الأمور، فتغولت عبر العديد من عملائها الذين درسوا في مدارسها، وتشربوا مبادئ الولاء والعمالة لها. ومما ساعد على ذلك النهج الذي اتبعته إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، الذي غض الطرف عن ممارسات طهران، وأتاح لها التدخل الفعلي، كل ذلك لأجل إنجاز صفقة الاتفاق النووي، التي توهم أنها ستجد طريقها إلى النجاح، ومن ثم تكتب في سجل التاريخ كإنجاز شخصي له.
وليت تدخل طهران كان لأجل توحيد العراقيين أو المساعدة على إقامة سلطة مركزية تحفظ الأمن، وتواصل رحلة النماء، لكن تدخلها كان سالبا، لا لهدف سوى إذكاء النعرات العنصرية والطائفية، لإيجاد أجواء تساعدها على نهب أموال العراق، وبالفعل تحولت الدولة التي كانت يوما ما من أغنى بلدان المنطقة، وتصدر ملايين البراميل من النفط يوميا، إلى أخرى تبحث عمن يمدها بالقروض. وتكشف للرأي العام من خلال مصادر عراقية رسمية أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي فتح خزائن العراق أمام طهران – إبان سريان العقوبات الاقتصادية قبيل توقيع الاتفاق النووي - وحوّل لها عشرات المليارات من الدولارات، إضافة إلى كميات هائلة من النفط..
هذا هو الدور الذي اعتاد ساسة طهران على لعبه وعرفوا بالحرص عليه، وهو تصدير الخلافات والنزاعات، واتباع سياسة فرِّق تسُد، وإحياء النعرات الطائفية، ومحاولة اللعب على أوتار الخلافات المذهبية، واجترار مشكلات من الماضي لإيهام البسطاء والمخدوعين بأنهم يعانون من الاضطهاد، وأنها هي الملجأ لهم، وهي مزاعم إن أفلحت في إغواء بعض بسيطي الفهم والإدراك في الماضي، إلا أنها صارت ممجوجة ومكشوفة الدوافع وغير قادرة على الصمود أمام الحقائق الدامغة، ودعوات الآخرين الصادقة لمد يد العون والمساعدة على النهوض من جديد.
وتزامن ذلك عراقيا مع إنشاء ما سمي بقوات الحشد الشعبي، وهي ميليشيات طائفية، اعتقد النظام الإيراني من خلالها ومن خلال بعض المليشيات والأجهزة الأمنية أنه أحكم قبضته على العراق فعليا، للدرجة التي بات فيها قائد فيلق القدس بالحرس الثوري، قاسم سليماني، يتصرف في العراق وكأنه الحاكم الفعلي، فهو الذي يصدر التعليمات والقرارات، وبلغت الجرأة ببعض مسؤولي طهران إلى إطلاق تصريحات استفزازية زعموا فيها عودة الإمبراطورية الفارسية الغابرة، وأن بغداد هي عاصمتها في الوقت الحالي. إلا أن العروبيين من السنة والشيعة، الذين يؤمنون بانتماء بلادهم في الأصل إلى الأمة العربية والإسلامية، وقفوا في وجه هذا المخطط، وحالوا دون تمريره.
وسط كل هذه الضبابية، ظلت المملكة تؤكد على الدوام تمسكها بمساعدة العراق، وحرصها على وحدته وصيانة أراضيه، وضرورة خروجه من محنته وعودته لأداء دوره القيادي الذي ظل يؤديه طوال تاريخه، رغم العراقيل التي حاول عملاء إيران افتعالها. وجاءت زيارة الجبير الأخيرة لتحرك الماء الراكد في أرض العراق، حيث وجدت قبولا واسعا وسط القيادات السياسية والقواعد الشعبية، وأولت حكومة بغداد اهتماما كبيرا بالضيف السعودي المرموق، الذي عرض تقديم الحلول، وتوفير المساعدات، دون أن يطرح قضايا مذهبية أو خلافية، ودون أن يطلب التدخل في شؤون البلاد الداخلية، وهذا هو النهج السعودي المعروف، الذي لا يبحث عن صفقات خاصة، ولا يتبع طرق المساومة، ولا يركز على مصالح شخصية، إنما ينطلق من مبادئ عامة، مستمدة من تعاليم الدين الحنيف، ويركز على قواسم مشتركة نابعة من الانتماء المشترك والمصير الواحد.
تسابق قادة العراق للترحيب بالجبير، حتى من أعضاء الائتلاف الحاكم الذي يقوده حزب المالكي، وذلك لإدراكهم أن الظرف السياسي السائد في الوقت الحالي غير الذي كان موجودا إبان إدارة أوباما، وأن توجهات الإدارة الأميركية الجديدة مختلفة كليا، وأن المجتمع الدولي لن يكون باستطاعته الصبر طويلا على التجاوزات السابقة التي مارستها إيران في أرض العراق وحولته إلى دولة يتقاتل أبناؤها ويرفعون السلاح في وجوه بعضهم البعض لأسباب واهية. كما أن ما عرضه الجبير من أفكار لمساعدة العراق كان واضحا أو من الصعب رفضه. فحققت الزيارة في ساعات قلائل نتائج مبهرة، كان في مقدمتها أن زار الرياض وفد من الخارجية العراقية، بعد يومين فقط على زيارة وزير الخارجية، لمتابعة ما تم الاتفاق عليه خلال الزيارة.
لا ترجع أسباب الاهتمام السعودي الكبير بالعراق إلى وجود حدود مشتركة بين البلدين، أو الخوف من حدوث مشكلات أمنية هناك، فقد كان بإمكان المملكة أن تبني جدارا فاصلا على المنطقة الحدودية، وأن تكثف قواتها الأمنية في المنطقة أو تراقبها بالكاميرات، إلا أن اهتمام الرياض بمستقبل بغداد وسلامة أراضيها ووحدتها، وحرصها على استقرارها وازدهارها ينبع من إيمانها بمسؤوليتها وواجبها تجاه بقية الأقطار العربية، لذلك تسارع إلى مد يد العون لشقيقاتها من تلك الدول، كلما كان ذلك ضروريا ومطلوبا.
زيارة الجبير كشفت حقيقة واضحة، أزعجت إيران، وأقضت مضاجع عملائها، مفادها أن العراق دولة عربية حتى النخاع، لن تفلح دعوات المذهبية الضيقة أو الطائفية البغيضة في انتزاعها عن محيطها وسياقها الطبيعي، وأن المرارات التي تسبب فيها النظام السابق لم تقتصر على فئة دون غيرها، فقد عانى منها جميع أبناء العراق، حتى الدول المجاورة لم تسلم منها، وأن وجود طهران المصطنع إلى زوال، وأن أرض الرافدين لن تظل تدور طويلا في فلك إيران، لأن ذلك يتناقض مع طبيعتها، فالعراق كان دوما وسيظل رائدا وقائدا، وليس تابعا، وأن قدره الانتماء إلى محيطه العربي، وسيطرة إيران وتغلغلها في دوائر صنع قراره سيكون بمثابة غرس جزء دخيل في كيان أصيل، وأن العملاء الذين ارتضوا رهن مصائرهم بأيدي أعداء أمتهم سرعان ما يتوارون وتتجاوزهم عجلة التاريخ، فالشعب العراقي قوي الشكيمة، لن يرضى الذل والهوان، ولن تقبل عشائره العربية الأصيلة أن يكون نائب فاعل، بعد أن كان فاعلا حقيقيا يسطر تاريخه بيده، ويؤثر في صناعة الأحداث.