هالة القحطاني

لا نستطيع أن نتكهن بهوية فيالق المهمات القذرة، فهم يهيمون في عوالمهم المريبة مثل قصص الجن الخرافية

أوقف سفيان صفقة شراء نظام إلكتروني بمبلغ 45 مليون دولار، كان من المفترض أن تشتريه المؤسسة التي يعمل فيها لتحديث نظامها. ولأنه المهندس المشرف على مشاريع الأنظمة الإلكترونية في تلك المؤسسة كان الأمر يتطلب موافقته. فلم يوقّع لأن المشروع بأكمله كان غير منطقي، لعدم وجود نسخة من النظام يعمل فعلياً على أرض الواقع، ويثبت أنه أفضل من النظام الحالي، بل كان مجرد نموذج على ورق. 
وعرضت الشركة المسوقة للمشروع على الرئيسين الأول والثاني لسفيان رحلة عمل لولاية كاليفورنيا، لزيارة الشركة، ورؤية نموذج تجريبي هناك. فتم استدعاؤه لشرح سبب رفضه، وفي اجتماع خاص مع رئيسه المباشر والرئيس الثاني، وضح لهم أن الشركة الأميركية كانت تحاول بيع نظام لا وجود له من الأساس، فكيف يوافق على شراء منتج، يطلب وضع نظام المؤسسة الإلكتروني للتقاعد، وإحلال فكرة على ورق محله. ثم قدم لهم بحثا بمستندات موثوقة، عن الدول التي وضعت تلك الشركة في قوائمها السوداء، ومنعت التعامل معها. كان رئيسه الثاني الأعلى، ينظر نحوه بجدية واهتمام، وحين انتهى، أعطى نظرة لرئيس سفيان المباشر ليتولى دفة الحديث، فرفع حواجبه حتى لامست منابت شعره، ثم زم فمه، وقطب جبينه، وأخذ وجهه يتشكل سريعاً في تعابير غير مريحة، سحب نفساً عميقاً طويلاً.. ثم أطلق العاصفة.
طُلب من سفيان فيما بعد أن يقدم إجازته السنوية، وحين غادر فقد منصبه كرئيس للأنظمة الإلكترونية في المؤسسة، وتم إيقاف دراسته لإكمال الماجيستير، التي كانت تمولها نفس المؤسسة، ثم نُقل إلى منصب أقل كفاءة من مهاراته، قيل له في البداية إنه مؤقت لتغطية نقص الموظفين، ليبقى هناك 12 سنة. كان يشعر طوال الوقت بأن وراء تعطيله وتعثره أمراً غير سوي، لم يستطع تحديد هويته، فكل إجراء حدث ضده كان يأتي بشكل ضبابي، 
لايراه بوضوح، ولكن يتعرف عليه من رائحته النتنة.
في كل منظومة بشرية على الأرض، تحددها علاقة عمل أو علاقة اجتماعية أو سياسية أو أسرية معينة، ستجد على الأقل واحدا أو اثنين من أفرادها، يملك أهدافا إستراتيجية خاصة، لا علاقة لها ببقية المجموعة، وتلك الأهداف عادة ما يحدد هويتها الخير أو الشر الكامن داخل الإنسان. فإذا كانت مساحة الخير كبيرة، سيغذي ذلك الأهداف ويسخرها لخدمة أفراد تلك المنظومة، من أجل مصلحة أفرادها. مثل منظومة الأسرة على سبيل المثال، كلما زاد الحب داخلها، وترفّع أحد الوالدين عن الخلافات، وجد أن ذلك سيخدم هدفه الأكبر، بالمحافظة على بيئة أسرية تخدم تعليم الأبناء، وتأهيلهم وإعدادهم للحياة. وإذا كانت مساحة الشر والأطماع الشخصية أكبر، ما تنازل نفس الفرد عن حقه في كل خلاف، إلى أن تتصاعد وتصل إلى مرحلة الانفصال ويتيه الأبناء.
وفي المنظومات المختلفة خارج الأسرة، تتغير الأهداف والمهام. فنحن في زمن قلما يكتفي من يملك فيه منصبا أو سُلطة باستخدامها لتنفيذ الأعمال المنوطة به فقط، بل يستغلها ليتحكم في الظروف، فإذا فشل في تأدية واجباته وشعر بخطر يهدد كرسيه، بحث عن آخرين ليلقي عليهم هذا الفشل، فيجند مرتزقة توهم الناس بنجاحه، وعمل دعاية له ، ليتحول المشروع الفاشل إلى مشروع ناجح. ويتحول المرتزقة مع الوقت إلى فيالق، مهمتهم تنفيذ المهمات القذرة. فيتم اختيارهم ببعناية وبعد اختبار عملي. ومن أبرز صفاتهم ضعف النفس، وعدم خشية الله في السر، عديمو المروءة محترفو النفاق، لدى الفرد منهم قوة لفعل أي شيء دنيء يُطلب منه. ويمنحهم التكليف بأداء المهمات التي يعتقدون بأنها صعبة، وهي في الأساس قذرة، شعورا بالزهو والاهتمام، خاصة حين تكون في دائرة التسلط على أرزاق الناس، ليخرجوا جميع عقدهم ومشاكلهم النفسية، بتدمير حياة أبرياء صالحين، من أجل حفنة من الفاسدين، الذين ما إن يصلوا إلى مراكز قيادية في مؤسساتهم، حتى يبدؤوا بالمناداة بضرورة القضاء على الفساد. والفاسد في نظرهم، كل شخص نزيه وقف أمام تغولهم.
ويقع منفذو المهمات القذرة، في بعض الأحيان، في مشاكل معقدة وغير متوقعه، تربك من سير خططهم، حين يتورطون مع أشخاص لا يملكون شيئا ليخسروه، فيُفضحون.
اعتادت عصابات المافيا في أوروبا وآسيا، التحرك ضمن مجموعات منفردة بنمط معروف، يراهم الناس في الأماكن العامة ويعرفون أنهم ثلة من المجرمين، يفرقون بينهم من نمط جرائمهم، فمنهم من تخصص في الخطف، ومنهم من يبدع في السرقة والنهب، ومنهم محترف اغتيالات. بينما فيالق المهمات القذرة، لا نستطيع أن نتكهن بهويتهم، فهم يهيمون في عوالمهم المريبة مثل قصص الجن الخرافية، فما إن تطأ لأحدهم على مصالحه الشخصية بالصدفة حتى تُفتح عليك بوابة جنهم.
لذلك حاول أن تكون شريفاً لا يتخلى عن كرامته ومبادئه الإنسانية من أجل الفوز بمنصب أو جاه يزول في لحظة، ولا تستمر في حياتك كأداة لتنفيذ المهمات القذرة، وتذكر أن نفوذ ومنصب محرضك سيزول سريعاً، وصنيعك المخزي لن ينساه لك الناس أبداً، بل ستبقى نفسك التي اختارت الدناءة معك إلى الأبد.