لم يرتكب التاريخ السوري مظلمة، مثلما ارتكب بحق الرئيس السوري الراحل أديب الشيشكلي، ذلك الرئيس الذي طبع نظام البعث في أذهان أجيال وأجيال «ديكتاتوريته» فقط، بينما رأيناه يخرج من كرسي الحكم ليحقن الدم السوري إثر تمرد اندلع في حلب، ليختار الرئيس الخروج من الحكم.

تكرر التاريخ مرة أخرى في عهد بشار الأسد، لكنه فضل البقاء في الحكم ولو كان على جثث السوريين.

في 27 سبتمبر من العام 1964 طوى التاريخ السوري صفحة أديب الشيشكلي، ذلك الرئيس الجدلي الذي -حتى الآن- لم يصدر كتاب يرصد حياة رئيس أدار دفة الحكم في أصعب مراحل الحقبة السورية.

ثمة صفحات مجهولة من تاريخ الراحل أديب الشيشكلي، تكشفها لـ«عكاظ» ابنته وفاء الشيشكلي، التي بينت الفرق بين والدها وبشار.

واستعرضت حياة الرئيس «الإنسان» في بيته بعيدا عن «الرئيس» في قصر الحكم، وعرجت قليلا عن أصعب المواقف السياسية التي مرت بها سورية خلال فترة حكم أبيها.

اغتيل والدك في البرازيل.. كيف تلقيت والعائلة هذه الكلمات؟

نزلت هذه الكلمات علينا كالصاعقة، لقد كان يوم 27 سبتمبر من العام 1964 يوما أسود، لم نتخيل أن الرئيس الذي نجا من عدة محاولات يُغتال في البرازيل، خرج من الحكم حتى لا يَقتُل، فإذ به يُقْتل في البرازيل، كنت متزوجة للتو ومقيمة في اللاذقية وسرعان ما انتقلنا إلى دمشق وبعد شهرين تلقيت نبأ اغتيال والدي وشعرت أن هذا كابوس لا حقيقة.. صدمة كبيرة ألمت بالعائلة، ولم نستوعب الأمر حتى وصل الجثمان من البرازيل إلى دمشق.

اختلطت روايات الاغتيال.. ما الرواية الأقرب إلى الواقع؟

انتشرت عدة روايات حول اغتيال والدي، ولكن هناك روايتن الأكثر انتشارا؛ الرواية الأولى أن الرئيس «والدي» انتهى من واجب العزاء لإحدى الأسر في البرازيل، وعاد إلى بيته مشيا على الأقدام، بينما عرض عليه بعض المقربين أن يقلوه إلى بيته بالسيارة، فأجابهم أريد أن «أتمشى»، ووقف عند مجرى نهر على جسر يتأمل ويفكر بعمق.. وإذ بنواف أبو غزالة يباغته برصاصات الغدر..

أما الرواية الثانية، التي ذكرتها الصحف البرازيلية: أن والدي كان قد وصل إلى مزرعته، واستطاع نواف أبو غزالة دخول المزرعة، وغدر به بأربع رصاصات في ظهره، وقد نشرت صحيفة برازيلية صورة لجثة والدي، وأشارت برسوم إلى موقع الرصاصات في ظهره وهو يرتدي زي المزارع.

لا راحة للرئيس

كيف كان يوم الرئيس أديب الشيشكلي؟

طوال حياة والدي وهو رئيس للأركان، وحتى عندما كان رئيسا لم نعتد على الحياة معه، كانت يومياته اجتماعات خارج المنزل وداخله، نراه عندما يعود بعد الظهر إلى البيت، ويتوجه إلى سريره مباشرة، ويصحو بعد العصر ليشرب فنجان القهوة، ومن ثم يقوم لمواصلة الاجتماعات التي غالبا ما كانت تعقد في منزله، وعندما كان يدخل إلى غرفة والدتي ليلا ويقول لها «نائمة أم إحسان.. نيالك».

لم نعش مع والدي كأسرة من أب وأم وأولاد.. لقد سرقته السياسة من حياتنا إلى أن خرج. أحدثك عن رئيس الأركان وعن الرئيس، لكني رغم إحساسي بأبوته إلا أنني لم أعشها.

كيف يتعامل مع العائلة؟

لقد كان والدي لطيفا معنا ومع والدتي، قليل الكلام، لا يتدخل كثيرا في حياتنا إلا من بعض النصائح والإرشادات التي يوجهها لوالدتي، أما خلال الأعياد فقد كنا نستغل هذه الأيام مع عمي صلاح، فهو أكثر مرحا من والدي، كان يأتي مع أولاد العائلة في العيد ويصنع لنا الأجواء المرحة، ومع ذلك كان والدي يجمعنا لنغني الأناشيد الوطنية، موطني، وبلاد العرب أوطاني، وفي سبيل المجد، والنشيد العربي السوري.

حين أصبح رئيسا، هل وجدتم أنفسكم أمام شخص آخر؟

كان التغير طفيفا جدا، وبقيت حياتنا ويومياتنا كما هي، عندما أصبح رئيسا، انتقلنا من بيتنا في ساحة السبع بحرات - والذي كان بالإيجار- إلى قصر الضيافة وبقي كما هو قليل الكلام ومنصرفا عنا لأعماله واجتماعاته.

محاولات الاغتيال

ما أهم القضايا السياسية التي كانت متداولة في بيت الرئيس؟

ربما سيكون ما أقوله لك، يحمل نوعا من المبالغة، لكن أقول لك بكل صراحة، أن السوريين يتحدثون في بيوتهم بالسياسة أكثر من بيت الرئيس، أبي لا يجلس معنا ولا وقت لديه للحديث مع عائلته، حتى على الطعام لا نجتمع إلا قليلا، كان العمل كل وقته، سواء كان في هيئة الأركان أم في الرئاسة.

هل كان يعيش هاجسا أمنيا على حياته؟

في الآونة الأخيرة من حكمه تعرض لمحاولة اغتيال، وأصبح يحتاط بشكل أكبر، لكننا في البيت لم نكترث للبعد الأمني، ففي إحدى المرات جاءتنا سلة عنب من داريا، فدخل إلى البيت ولفتت نظره سلة العنب، وسأل والدتي من أين هذه السلة، قالت: جاءت من زوار من داريا، حينها أعطى والدتى درسا في الاحترازات الأمنية وحظر عليها أن تدخل شيئا دون التحقق منه.

هل ثمة أشخاص يؤثرون في الرئيس أديب الشيشكلي؟

كان يستمع إلى حديث جدتي (والدته)، من عائلة البرازي إذ عادة ما يقضي معها ساعة كاملة في القصر، كان يستمع إليها جدا لأنها فائقة الذكاء وخفيفة الظل، فكان يأخذ برأيها ويحاورها ويناقشها في مشاكله السياسية ويسعد بجلسته معها، وكانت دائما تقول له: «يا ابني تحاور مع خصومك وشوف شو بدهن منك.. اسمع منهم» فيرد بألم وحسرة «يا أمي إنهم لا يعطونني فرصة».

بماذا خرجتم من قصر الرئاسة؟

خرج والدي من الحكم في ظروف صعبة، ولم تكن العائلة متهيئة لهذا الحدث الكبير، وكان والدي دائما يقول لوالدتي إياك أن تأخذي معك أي شيء من القصر ما لم تملكيه، وحين خرجنا من القصر، أشار عليها المسؤول عن القصر أن تأخذ معها بعض الستائر ولا تتركها في القصر، فأجابت: الرئيس قال لي لا تأخذي ما لا تملكينه، وأعادوا الطلب مرة أخرى بالقول: لن يستخدمها أحد من بعدكم، وردت بنفس الجواب الأول، لقد خرجنا بخفي حنين من القصر.

ماذا كان يقرأ؟

كانت مكتبته مليئة بكتب الأدباء، لكنه كان مهتما جدا بالصحافة المصرية، وخصوصا «مجلة المصور»، و«آخر ساعة»، كانت تهمه مصر في تلك الأيام، إذ كانت الأنظار موجهة إلى مصر أيام محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأواخر عهد فاروق، فكان يعطيني نقودا ويطلب مني أن أعطيها للجندي أو الحارس، ليجلبها له.

أكثر العبارات التي يرددها؟

«إرضاء الناس غاية لا تدرك».

كم كان راتبه في هيئة الأركان وفي الرئاسة؟

لا أذكر بالضبط، لكن راتبه كان بسيطا جدا، فعندما كان عقيدا ورئيس هيئة الأركان العامة، كان بيته بالإيجار، ولم نكن نملك منزلا حين خرج من البلاد، بينما عمي صلاح وهو ضابط أيضا اشترى منزلا لعائلته، وكثيرا ما كانت والدتي تحثه على شراء منزل في دمشق، ويجيبها: أنا لن أترك لك مالا أو جاها أو عقارات، وإنما اسما، لكن كنا نملك منزلا كبيرا في حماة، وقرية صغيرة بجوراه ورثهما والدي من أبيه، أما راتبه فكان مع كل راتب يعطي والدتي مصروف البيت وهي من تديره حتى نهاية الشهر.

حادثة لافتة وقعت في بيت الرئيس؟

ذات مرة عندما أصبح رئيساً للأركان العامة أعطته الدولة خطاً هاتفياً مجاناً، وعندما أتت الفاتورة 200 ليرة سورية، وكان في ذلك الوقت مبلغاً كبيرا، رفض والدي أن تدفع الدولة هذا المبلغ، وحتى لا تعيد والدتي الكرة في عدم متابعة استعمال الهاتف بهذه الطريقة، جعلها تدفع الفاتورة من مصروف البيت الشهري، ورفض أن تتحمل الدولة أعباء هذه الفاتورة، كان يقول أنا الرئيس يجب أن أكون قدوة للسوريين.

من هي الشخصيات التي كانت تتردد عليه في القصر؟

كان يتردد على المنزل الملازم آصف قباني وكان مرافقه الدائم، وبعض الضباط المقربين مثل قاسم الخليل وعبدالحميد خليل وعبدالحق شحادة والكاتب قدري القلعجي وآخرون، ولم يكن يقحم البيت في أمور السياسة والحكم، كان البيت للعائلة فقط.

يقول الكاتب البريطاني الشهير باتريك سيل «عندما يتذكرون أهمية الحكم العسكري أول ما يذكره السوريون هو أديب الشيشكلي»، هل والدك فعلا ديكتاتور؟

عندما كان رئيسا كان هناك حكم عسكري في البلد، وكان مضطرا إلى الحكم العسكري، ويعتبر نفسه في مرحلة موقتة إلى أن تستقر البلاد وتصل الأحزاب إلى التفاهم، فلم يكن والدي يريد الرئاسة - وهذا ما كتبه الكثير من المؤرخين - إلا أن حزب الشعب هو من اضطره ليقوم بالانقلاب، فقد كانوا يريدون الهيمنة على مقاليد الأمور وتسليم سورية للعراق وهو مازال تحت الاستعمار البريطاني. وقد صرح في إحدى المقابلات مع مراسل إحدى الصحف بقوله: «أنا لست ديكتاتورا، بل أنا مزارع ابن مزارع».

كيف قام بالانقلاب على الأحزاب؟

لقد كان حزب الشعب يريد أن يدخل في وحدة مع العراق، الذي كان يرزح تحت الانتداب البريطاني آنذاك، وكان هذا الأمر بالنسبة لوالدي خطا أحمر، لأن استقلال سورية أمر غير قابل للمساومة أو النقاش، وقد كان التوجه حينها لتشكيل حكومة غالبيتها من حزب الشعب، وقد حذر الشيشكلي حزب الشعب أكثر من مرة ولم يستجيبوا له، وبالفعل تم تعيين معروف الدواليبي رئيسا للحكومة وللدفاع، حينها اضطر والدي أن يقوم بالانقلاب وأزاح معروف الدواليبي، ودخل الجيش إلى الحياة السياسية، ودخل والدي إلى معترك السياسة.

كتب الكثير عن خلاف الشيشكلي مع رفيقه أكرم الحوراني، ما أصل وحقيقة هذه الخلافات؟

طموحات أكرم الحوراني بالرئاسة هي التي فجرت الخلافات، ففي البداية كان الرجلان متفقين، وبعد أن ظهرت طموحات الرئاسة تبدو على سلوك الحوراني بدأت الخلافات، وحين أيقن الحوراني أن الطريق إلى الرئاسة بات معبدا أمام الشيشكلي أطلق عليه الشائعات بأنه يسعى لكبت حرية الرأي ويطبق على الناس وبأنه يتعاون مع الغرب، وظهر الخلاف علنا حين اتحد الحوراني وحزبه العربي الاشتراكي مع حزب البعث العربي ليشكلا حزب البعث العربي الاشتراكي، كما وظف الشيوعيين في الحزب الاشتراكي الذي أسسه الحوراني، وهنا ظهر الانزعاج على والدي عندما رأى الحوراني يحشد كل الأحزاب ضده.

رفض العودة للحكم

ألم يكن يفكر بالعودة إلى سورية سواء كان سياسيا أم مواطنا عاديا؟

كان والدي قليل الاتصال بنا من البرازيل، وحقيقة لم نعرف بماذا كان يفكر، فهو لا يشركنا في قراراته.

لكن وقبل سفره إلى البرازيل العام 1960، اجتمع مع بعض السياسيين من القوميين السوريين والضباط السوريين في لبنان، وناقشوا وضع سورية، وهناك حادثة لم يذكرها أحد وهي أن عمي صلاح كان حريصا على عودة أبي إلى السلطة، وفي إحدى المناسبات رفع المسدس على والدي لكي يقبل ويتجاوب مع العروض المقترحة لعودته إلى سورية، لكنه رفض وقال له «إن لنا قضية يا صلاح، هي سورية والحفاظ على استقلالها».

حتى العراقيون الذين ساهموا في إزاحة والدي من خلال المال والحشد الإعلامي ضده ومن تحريض الأحزاب عليه حاولوا إقناع والدي بالعودة إلى الحكم بعد مغادرته، لكنه لم يستجب، لأنه كان يرفض رفضا تاما ربط سورية بالخارج، وعرض العراقيون على والدي المال، وقالوا له: هذا المال من أجل عودتك، وإن لم تعد فهناك من سيأخذها لقلب الحكم، ومع ذلك فضل البقاء بعيدا عن سورية.

حل الأحزاب المتناحرة

حادثة جبل الدروز، والحملة التأديبية الشهيرة كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، هل ارتكب الشيشكلي فعلا مجازر؟

لو كان والدي يريد السلطة لاستمر في حملته ضد الدروز، لقد ارتكب بعض الضباط حماقات، وهدروا دماء السوريين، وبحكم وجود والدي في الحكم تحمل المسؤولية، لكنه لم يدعُ أبدا للقتل والدم، بدليل أنه خرج من الحكم حقنا للدم.

هل هرب من المواجهة أم استسلم؟

والدي شخصية عسكرية منذ كان عمره 19 عاما، ولم يعرف الخوف أبدا. هو فضل الخروج من البلاد لأنه أراد تجنيب سورية حربا أهلية مدمرة، كما آثر عدم حصول انشقاقات في صفوف الجيش السوري بالرغم من أن كثيرا من الضباط المؤيدين له حاولوا إقناعه بسهولة قمع الحركة ضده وبالتحضير المسلح في دمشق للقتال إلى جانبه، إلا أنه لم يشأ أن يقتل الجندي أخاه الجندي ورفض ذلك.

تظهرين والدك كأنه ديموقراطي ولا يحب الصدام.. فلماذا الكل يصفونه بالديكتاتور؟

لأنه قام بحل الأحزاب المتناحرة المتصارعة على المصالح الخاصة في برلمان تضيع فيه المشاريع في مناقشات بيزنطية لا جدوى منها، ودعا الجميع إلى «حركة التحرير العربي»، التي أقامها وجعل أساس منهاجها مبدأ القومية العربية والحرص على جعل سورية (المتحررة من كل نفوذ أجنبي) رائدة القومية العربية من أجل وحدة الأمة العربية.

وكان هدفه الأكبر أن يقف في وجه إسرائيل. فهو طالما كان يقول «هذا هو عدونا الأول». كانت سورية تتمزق أمامه بسبب سياسة الأحزاب، الكل متناحر ويريد السلطة، والبعض يريد أخذ سورية المستقلة إلى العراق الذي كان يرزح تحت الانتداب البريطاني.

والدي لم يقاتل معارضيه من أجل السلطة، بل لخدمة بلاده بتجرد وإخلاص، ولهذا عندما غادر الحكم قرر الابتعاد عن كل الشرق الأوسط ومتاعبه. إن كان والدي ديكتاتوراً فهو لم يختر هذا الاسم، وإنما دعته الظروف إلى ذلك مثل الرئيس الأعلى «صلاح الدين الأيوبي» الذي وحد سورية ومصر وحرر فلسطين.

بروفايل

مولده: أواخر 1909م.

نشأته: في مدينة حماة.

دراسته: تخرج من المدرسة الزراعية في السلمية عام 1927.التحق بالكلية العسكرية في حمص عام 1928.

مناصبه:ملازم أول - عقيد - زعيم - رئيس وزراء - رئيس جمهورية في 1953/7/11.

استقالته:1954/2/25 .

وفاته:1964/9/27 مقتولاً في البرازيل