إميل أمين

تداعيات الأحداث عربيا ودوليا باتت تقتضي البحث عن سبل وآليات حديثة لمواجهة الإرهاب والعنف المتطاير ولوقف ثقافة الكراهية وزرع الألغام التي يسعى إليها فصيل بعينه في حاضرات أيامنا... لكن يبدو أن تطورات موجات المواجهات المسلحة ودعوات العنف بوصفها تجليا أكبر للتطرف، استوجبت من القيادات المجتمعية في العالم العربي بنوع خاص السعي نحو طرق غير الأمن للبحث في مجابهة هذه الظاهرة، فعلى الرغم من أن الأمن أداة جيدة ومقبولة لحفظ النظام العام والأرواح والممتلكات، فإنه يقف أحيانا عاجزا سيسيولوجيا على الأقل عن تفسير أصل نشأة العنف وأدوات مقابلة الإرهاب، ومن هنا كان الحديث عن مفردات جديدة من نوعية المواطنة والحرية، التعددية وقبول الآخر، للقضاء على الإرهاب في الحال، ومقاومة دعوات الأصولية، لا سيما إذا كانت مشوشة في الاستقبال.


يفهم المرء سلسلة اللقاءات التي استضافها الأزهر الشريف في الأسابيع القليلة المنصرمة، والهدف منها إحياء لغة الحوار مع الآخر من جهة، والتوقف عند قيمة المواطنة والتعددية من ناحية ثانية لمواجهة أحداث الإرهاب الأخيرة سواء في مصر أو في غيرها من الدول العربية، وقد كانت شبة جزيرة سيناء بنوع خاص قد شهدت حالات متكررة من قتل وتهجير الأقباط، كما في مدينة العريش، ما دعا هؤلاء للفرار إلى الداخل المصري، الأمر الذي أعاد إلى الأذهان مشاهد لأقليات عرقية ودينية أخرى في سوريا والعراق، شهدت المآسي ذاتها من قبل عدة أعوام.
يعن لنا أن نتساءل: هل سيادة فكر المواطنة كفيل بأن يتصدى للأفكار الأصولية المغلوطة؟
ربما يتعين علينا بداية تعريف المواطنة، واستكشاف مقدرة المفهوم على القيام بهذا الدور، وهنا نجد أن اللفظة في أصلها الفرنسي Citoyennete تعني تمتع الفرد بعضوية بلد ما، ويستحق بذلك ما ترتبه تلك العضوية من امتيازات، وفي معناها السياسي تشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها، والالتزامات التي تفرضها عليه.
عطفا على المفهوم التجريدي تبقى هناك نظريات عدة لتفسير ظاهرة المواطنة، انطلاقا من رؤية العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو Contrat Social المتمثلة في العلاقة بين الفرد والدولة، وفقا لما يحققه قانون الدولة، فالمواطنة هنا تعني كفالة الدستور لحقوق الفرد عبر ترسيخ انتمائه لهذا الكيان الاعتباري الذي يشعر بأهميته فرداً ويأخذ على عاتقه حمايته واحتياجاته المادية والمعنوية، وعلى الجانب الآخر، أي عند حدود الفرد الطبيعي يبقى لزاماً عليه أداء واجباته تجاه الدولة، على النحو الذي يكفل لها تحقيق مصالحها العليا، وصيانة أمنها وأمانها، وترابها الوطني واستقلالها، وسلامة عيشها وسبيكتها الاجتماعية، بل والإسهام بأكبر قدر يمكنه في تحقيق تلك الأهداف العليا.
هل غياب ملامح ومعالم حالة المواطنة يدفع في اتجاه التطرف ويعمق من أبعاد الأصوليات السلبية، وينشر حالة من الانتماء المنقوص، وبذلك يكون الإرهاب النتيجة الحتمية لذلك؟
الشاهد أننا لا يمكننا بحال من الأحوال أن نفهم أبعاد وكنه الظاهرة الإرهابية بعيدا عن السياقات الاجتماعية التي تعزز السلوك الإرهابي الأصولي، ذلك أنه في الزمان والمكان اللذين يوفران مفهوما صحيحا للمواطنة، يستشعر الفرد أنه جزء أصيل من هذا المجتمع، وعليه واجب أخلاقي وأدبي، إيماني وديني، بالذود عنه والدفاع عن ترابه ومقدساته وهنا تنصهر المصلحة الخاصة للفرد في المصلحة العامة للدولة، ما يكسب الأوطان والمجتمعات السليمة نفسيا درعا وسيفا، درعا للتصدي للإرهاب والتطرف الوافد من الخارج، وسيفا لمقاتلة إغراءات الانتماء للجماعات الإرهابية التي تمتلئ شرا وكراهية.
يمكننا أن نفهم من هذه السطور أن الإرهاب والمواطنة مفهومان متناقضان والعلاقة بينهما علاقة عكسية، بمعنى أنه كلما علا شأن المواطنة، تناقص خطر الإرهاب، وبالعكس عندما تختبئ وتختفي المواطنة تظهر الذات والأنا غير المستنيرة، وتغلب الأهواء الشخصية على المصالح العمومية، وتمضي بنا السبل إلى الكارثة التي تعمق الإرهاب، التي يمكننا أن نجملها في كلمة واحدة «الطائفية والتمذهب»، فعندما تصير الأوطان طوائف ومذاهب، تغيب من سماء السماوات ملامح ومعالم المواطنة.
والمقطوع به أن الطائفية تبقى آفة كل عصر، ويمكننا أن نشير إلى ثلاثة أشكال منها على وجه التقريب:
* بداية: الطائفية السياسية، وهذه تعكس فشلا واضحا في بناء الدولة العصرية، والمحاصصة الطائفية هي أكثر طريق لهدم دولة المواطنة والتعددية، ما يتيح للجماعات السياسية التحول إلى ميليشيات مسلحة لا تلبث أن تتخذ العنف، وتاليا، الإرهاب طريقا في نظرتها لتداول السلطة.
* النوع الثاني من أنواع الطائفية التي تفت في عضد المواطنة وتفتح الأبواب واسعة لضيق الآيديولوجيا، هي الطائفة الدينية، وفيها يضحي الوطن متشظيا ومقسما على قواعد ومرتكزات دينية، ولأن الأديان تنزيل إلهي لا يقبل الصراع، في حين أن السياسة من أعمال البشر يأخذ منها ويرد عليها، لذا فإن الطائفية الدينية أو المذهبية، تؤمن بفكرة «الحقيقة المطلقة»، وعليه تستبعد «النسبية السياسية»، والخلاصة لا بد أن تكون عزل الآخر وإقصاءه، وربما قتله وإفناءه والخلاص منه دفعة واحدة.
وهنا ربما تحتم علينا المقاربات التاريخية استرجاع بعض من التاريخ المظلم لأوروبا، التي عرفت الأصوليات الدينية المغرقة في التطرف، وذلك قبل انبلاج عصر النهضة، الذي قاد لفكر المواطنة على ثلاثية «الإخاء والمساواة والحرية».
في حين النوع الثالث من الطائفية المناهضة للمواطنة هو الطائفية العلمانية، التي ترى أصوات كثيرة أنها الضد والمعادل الموضوعي المقابل للطائفية المذهبية أو الدينية، والإغراق في العلمانية، ومحاولة تسطيح أي ملامح أو مظاهر للتدين السليم الوسطي السمح، يعمق الشرخ الحادث بين أفراد المجتمع، ما بين مؤمنين ممارسين وعلمانيين يتعاطون بفوقية على المواطنين ومن يعيشون بين جنباتهم.
والحديث يطول بشأن توصيفات وتصنيفات الطائفية وأفضل طريق لمحاربتها، وقطع الطريق على الأصوليات الناشئة عنها يتمثل في تعميق مفهوم وحياة وممارسة المواطنة وفتح مسارب الأمل أمام طرح التعددية.
نعني بالمواطنة، بداية، أن تكون الدولة كاملة لا ناقصة من خلال ركنين أساسيين:
الأول هو المشاركة الفعالة، التي من خلالها يعمق المواطن علاقته بالوطن والانتماء إليه.
الثاني هو المساواة، وهنا يتعين على الوطن أن يعامل أبناءه دون تفرقة أو تمييز بسبب الدين أو العرق أو الجنس، والمساواة الكاملة والتامة بين أبناء الوطن الواحد هي الترجمة العملية لكلمة مواطنة.
تنشأ الأصوليات ويزدهر التطرف حكما عندما تضيق ساحات ومساحات المواطنة، ويغيب حس الانتماء للوطن، وتقاطعات الإرهاب والأصولية مع الدوافع المرتبطة بالمواطنة واضحة أمام الجميع، وفي مقدمتها الدوافع السياسية، فالكبت والقمع السياسيان يعنيان بشكل مباشر افتيات على حق طبيعي لأفراد بعينهم وحرمانهم من ممارسة ومشاركة بناء الأوطان، ما يدفع هؤلاء إلى عنف سياسي لفظي وفكري، لا ينفك أن يضحي جسديا وماديا ملموسا.
كما أن غياب المواطنة الاقتصادية، بمعنى غياب حالة التوازن في توزيع الدخول، والتفاوت الطبقي الرهيب يؤديان إلى قهر اقتصادي وفقر وغبن لفئات عريضة وكثيرة في المجتمع، فهؤلاء يتم فرزهم وتصنيفهم على أنهم «أقنان الأرض»، كما كان يقول فيلسوف وروائي روسيا الأشهر «ليو تولستوي»، بمعنى عبيد الأرض، غير أنهم حتما لا يستكينون لأقدارهم البائسة، فيتحولوا إلى قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في أي لحظة.
المواطنة التي دارت من حولها المؤتمرات مؤخرا تحارب الإرهاب الأعمى والأصولية الداعية للكراهية عندما تقف سداً وحدّا في مواجهة دوافع نفسية تمتلئ بها النفس الأصولية كالإحساس بالقهر أو الاضطهاد المجتمعي، وكذا حالة الاستضعاف، ويكون رد الفعل الطبيعي إزاءها إظهار مزيد من الاعتراض بالقوة لإثبات الذات.
وفي غياب المواطنة تتعمق حالة الاضطراب الاجتماعي ويزداد المجتمع تفسخاً وتتراكم طبقات الحقد الأصولي عطفا على انحلال عقد الأسرة وغياب المثل الصالح، وفي هذه المناخات يسهل جدا أن يتم تجنيد أصحاب اللاانتماء، وتفيض حالات اللامنتمي، وهؤلاء هم الوقود البشري الجاهز أبدا ودوما للانفجار والاشتعال في الحال والاستقبال.
ينزع مفهوم المواطنة فتيل الديناميت الجاهز للاشتعال عبر إشكالية الأقليات، التي باتت اليوم تستغل على الصعيد الدولي كمخلب قط لإذكاء الثورات وتوليد العداءات بين أبناء الوطن الواحد، وقد خبرناها في عالمنا العربي خلال السنوات القليلة المنصرمة، وإن كانت خبرة سيئة لاشك في ذلك.
أحسن فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب حين نكأ جرح المواطنة، خلال كلمته الافتتاحية في مؤتمر «الحرية والمواطنة... التنوع والتكامل»، حيث أشار إلى أن الأزهر حين يدعو إلى نشر مفهوم «المواطنة» بديلا عن مصطلح «الأقلية والأقليات»، فإنه يدعو إلى مبدأ دستوري طبقه نبي الإسلام - عليه الصلاة والسلام - على أول مجتمع مسلم في التاريخ، وهو دولة المدينة، حين قرر المساواة بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، واليهود بكل قبائلهم وطوائفهم في حسبان الجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، وقد حفظ لنا تراث الإسلام في هذا الموضع وثيقة مفصلة في شكل دستور لم يعرفه التاريخ لنظام قبل الإسلام.
يفتح مفهوم المواطنة الباب واسعا أمام التنوع الذي هو غنى للإنسانية، وبذلك يغلق الباب في وجه ما سماه البابا تواضروس، بابا الإسكندرية في كلمته أمام مؤتمر الأزهر الأخير: «الذات الطائفية»، وهي الذات الأصولية المتطرفة القائمة على التربية الأحادية والرأي الواحد، التي عندها كل رأي آخر مختلف هو بالضرورة كافر ومضلل، وفي غياب ثقافة احترام الآخر، يكون المرء أشبه بمن ينظر في مرآة فلا يرى إلا نفسه.
وحال غياب التنوع والتعددية، المحتوى الحقيقي للمواطنة، يشيع الفقر الأدبي، فقد تختلف الأمم في هوية أبنائها الدينية، لكن لا تختلف في هويتها الوطنية.
إن سد مسارب الأمل أمام المواطنة والمساواة والتعددية، يترك مجالات الصراع الحضاري والقومي مشتعلة، لا سيما أن الاختلاف ينشئ خلافا ثم صراعا ثم استبدادا ثم انقساما، في حين أن المنهج الحضاري العصري الذي تنشده كل شعوب الأرض، فيه التنوع ينشئ الحوار، والحوار يدور في دائرة التعارف والتسامح والعيش المشترك، وقد بات على العالم المتناحر اليوم أن يختار بين ثقافة الجدار وثقافة الشجار وثقافة الحوار، وخياراته ستكون الإرث الذي سيتركه للأجيال القادمة قطعا.
لقد جاء البيان الختامي لمؤتمر الأزهر الذي شارك فيه أكثر من مائتي شخصية من ستين دولة من النخب الدينية والمدنية والثقافية والسياسية الإسلامية والمسيحية في الوطن العربي والعالم، ليضع النقاط على حروف مفهوم المواطنة بوصفه أداة إيجابية في مواجهة وفي وجه الأصولية والعنف والتطرف.
البيان يؤكد أن تبني مفاهيم المواطنة والمساواة والحقوق يستلزم بالضرورة إدانة التصرفات التي تتعارض ومبدأ المواطنة من ممارسات لا تقرها شريعة الإسلام، وتبنى على أساس التمييز بين المسلم وغير المسلم، وتترتب عليها ممارسات الازدراء والتهميش والكيل بمكيالين، فضلا عن الملاحقة والتصنيف والتهجير والقتل، وما إلى ذلك من سلوكيات يرفضها الإسلام، وتأباها كل الأديان والأعراف.
قبل أيام قليلة من مؤتمر الأزهر المشار إليه سلفا، كانت أروقة المؤسسة الإسلامية الكبيرة تشهد استئناف جلسات الحوار بين الأزهر والمجلس البابوي للحوار في الفاتيكان، وقد أوصى البيان الختامي للندوة المشتركة بأهمية احترام التعددية الدينية والمذهبية الفكرية كآليات تقدمية معالجة لأسباب ظواهر التعصب والتطرف والإرهاب والعنف.
ورغم نجاح المؤتمرات المتقدمة ونظيراتها في كثير من الدول العربية والإسلامية حول العالم، فإن المسؤولية الكبرى تجاه استحقاقات المواطنة تصب لدى الدولة، التي يتوجب عليها العمل على تنشئة أفرادها على منهج المواطنة وتنمية حس الانتماء للوطن الذي يعيشون فيه كحل وعلاج وقائي يقيهم من جهة ويردعهم من جهة ثانية عن الانتماءات الآيديولوجية الضيقة المتمثلة في الجماعات الإرهابية، وإغراءاتها التي تعتمد بشكل أساسي على استغلال حاجة الفرد للانتماء.
لا مواطنة من دون عدالة اجتماعية، حقيقة مؤكدة، ولا مواطنة من دون نبذ التطرف الفكري، غير أن الركيزة الرئيسية وحجر الزاوية في بناء أفكار دولة المواطنة يتصل بالتعليم والتربية، فهما جناحا المواطنة الساعية لإحقاق حقوق الآخر، أدبيا وماديا، وبعيدا عن التعصب والأحادية، التعليم والتربية هما الطريق إلى المعرفة المستنيرة، التي تفسح الطريق أمام القضاء على ثقافة الإلغاء والإقصاء التي تحتل عادة عقل ممارسي العنف والإرهاب، وتوجه أصحاب الأصوليات.
هل أضحت المواطنة فرض عين في عالمنا العربي؟


المثير أن هناك دولا إسلامية آسيوية مثل ماليزيا وإندونيسيا حققت نجاحات في مضمار المواطنة، وقد ألقت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان مؤخرا الضوء على التعايش المشترك الذي أفرز نجاحات اقتصادية وتقدما اجتماعيا خلاقا... أين نصيب العرب إذن من المواطنة؟. . . .