نحو صينولوجيا عربية ودعم الأسس المعرفية للعلاقات العربية الصينية

محمد السديري

الجهل المعرفي يحجب عنا واقع «الحرب الخطابية» الدائرة الآن داخل المؤسسات والمراكز البحثية الصينية، ويُفقدنا القدرة على خوضها في المحيطين الأكاديمي والعام بشكل يخدم مصالحنا العربية على المدى الطويل

لاحظتُ من النقاشات الدائرة في العالم العربي عن الصين أنها غالبا تعيد تدوير وإنتاج صور نمطية استشراقية عن تلك البلاد، مصدرها الإعلام الغربي، ثم الصينولوجيا الغربية التي تفسر -كما يذكر دانيال فوكوفتش في كتابه «الاستشراق والصين»- الواقع الصيني وتطوراته السياسية وغير السياسية من منظور الحرب الباردة وفكرة «الاستعلاء الثقافي». ليست المشكلة في أننا نستهلك من المنتج المعرفي الغربي عن الصين؛ إذ يمكن تفهم ذلك بسبب طبيعة عالمنا ومناطق تمركز القوى الأكاديمية والاتصالية فيه، وإنما المشكلة الحقيقية أن العالم العربي يفتقر إلى بنية تحتية معرفية/صينولوجية تسمح له بتقييم هذه المعرفة المستوردة من الغرب، وتؤهله لإنتاج معرفته الخاصة به عن الصين، من خلال التعامل المباشر مع المؤسسات الصينية بأشكالها وأطيافها المختلفة.
لذلك يطغى على أكثر الأحاديث العربية، خصوصا الإعلامية والأكاديمية التي يطرحها عادة غيرُ المتخصصين وغيرُ المتحدثين باللغة الصينية، طابع الضحالة والتطرف الفكري؛ فهي تعتمد على تصورات فانتازية/متخيلة لا تمت إلى واقع الصين بأي صلة، ولا تُعير ما يكتبه ويقوله الصينيون أنفسهم أي اهتمام، وتُعامل الصين على أنها كتلة واحدة لا تحتوي على أي اختلافات أيديولوجية يمكن التماسها والتعامل معها. ونتج من هذا «التجانس» المفروض على الصين وجود تلك الفكرة الاستشراقية المنبع، التي لاحظتُها بشكل متكرر في تعاملاتي مع المحيط العربي المهتم بالصين، ومنهم المنخرطون في السلك الدبلوماسي، والتي تنظر إلى الصين على أنها بلد ضبابي غامض، يصعب فهم ديناميكياته الداخلية، وينبغي الحذر منه. هذه التصورات جعلت الصين كيانا «خياليا»، نُسقط عليه ما تُمليه علينا أفكارنا ورغباتنا بشكل يُحاكي ما قام به الأوروبيون في عصر التنوير، وإن وظف الأوروبيون هذه التصورات في النقد الاجتماعي، بينما نوظفها نحن -بشكل كارثي- في التحليل الجيوسياسي؛ فمثلا: هناك مَن يرى الصين قوة صاعدة وواعدة وراغبة في أن تحل محل الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وأن علاقات العرب معها ستكون مبنية على «توافقية» كاملة على مستوى المصالح والإستراتيجيات، بينما ينتقد آخرون التجربة الصينية بسبب منظومتها السياسية والقضائية، أو سجلها في مجال حقوق الإنسان، أو إرثها الماوي، أو أنها -كما ذكر أحد الكتاب- «لا تستطيع أن تصدر إلى العالم ما توفره الزعامة على صُعُد: الثقافة، والتعليم، والفنون، والريادة التقنية والمعلوماتية». وللأسف، لا تنبثق أكثر هذه الانتقادات من بحث وتقص، وإنما من انطباعات ومخاوف أفرزها الخطاب الديموقراطي الليبرالي الغربي المعادي للصين، الذي ظهر بعد أحداث تيان آن مين، وانتهاء «شهر العسل» الغربي الصيني عقب سقوط الاتحاد السوفييتي.
قد يرى بعض المحللين أن العوامل الاقتصادية والإستراتيجية المختلفة ستحافظ على متانة العلاقات العربية الصينية، وأن القنوات الثقافية التي بدأت بالظهور في الآونة الأخيرة، كالمهرجانات والمعارض واتفاقيات التعاون بين الجامعات، ستدعم هذه العلاقة وتحل مشكلاتها على المدى الطويل، لكن الواقع أن العالم العربي يواجه ضعفا معرفيا صينولوجيا رهيبا، ولو بقي الوضع على ما هو عليه فستكون هناك تداعيات حقيقية تحد من تطور العلاقات العربية الصينية. وتتمثل أهم إشكاليات هذا الوضع في:
الجهل المعرفي يجعلنا في وضع لا نستطيع معه تقييم المواقف الصينية، أو حتى جس نبض النقاشات الداخلية الصينية عن منطقتنا بشكل موضوعي. وتنكشف ضخامة هذه الفجوة عندما نُقارن ما يُنشر في الصين عن الإشكاليات الإستراتيجية في العلاقات الصينية الخليجية -مثلا- وما يُكتب عنها في دوائرنا الإعلامية والأكاديمية؛ فتصوراتنا عن سياسات الصين الخارجية خيالية، تجعلنا غالبا في حالة من خيبة الأمل عندما لا تتحقق رغباتنا.
الضعف المعرفي يمنعنا من بناء علاقات عميقة مع المنظومة السياسية الصينية والدوائر الأكاديمية المعنية بالشأن العربي؛ فالصينيون لهم إرث طويل من تدريس اللغات الشرق أوسطية «العربية، والفارسية»، وهناك مراكز داخل الصين تهتم بدراسة منطقتنا، خصوصا في بكين وشانغهاي، ويمكن رصد تأثير ذلك في الكوادر الدبلوماسية الصينية التي تتمتع عادة بمهارات لغوية جيدة ومعرفة عميقة بمنطقتنا. لكن -للأسف- ليس لدينا شيء مماثل في العالم العربي إلا في نطاق ضيق؛ لذلك فنحن نواجه -بسبب الحواجز المعرفية واللغوية- صعوبات حقيقية في بناء علاقات عميقة ومستديمة مع الصينيين؛ لأنهم -في ثقافتهم السياسية مثلا- يبجلون العلاقات الشخصية.
الجهل المعرفي يحجب عنا واقع «الحرب الخطابية» الدائرة الآن داخل المؤسسات والمراكز البحثية الصينية، ويُفقدنا القدرة على خوضها في المحيطين الأكاديمي والعام بشكل يخدم مصالحنا العربية على المدى الطويل؛ فمن الصعب التأثير في السياسة الخارجية الصينية بشكل مُماثل لما يحدث مع الولايات المتحدة الأميركية، التي توجد بها قنوات ومنافذ لجماعات الضغط وشركات العلاقات العامة. والمنفذ المؤسساتي الحقيقي في الصين هو الجهات الأكاديمية ومراكز البحوث المتنوعة؛ فجميع فروع الدولة الصينية لها مؤسساتها الخاصة التي تستشيرها بشكل دائم في مختلف القضايا؛ لذلك شرعت إسرائيل -مثلا- بمساندة من جماعات يهودية أميركية في توسيع العلاقات البحثية والعلمية مع هذه المؤسسات؛ حتى تستطيع التأثير في الخطاب الداخلي الصيني عن منطقتنا؛ فهي تقدم للطلبة الصينيين منحا موسعة في الدراسات الشرق أوسطية واللغة العربية، وتنظم للأكاديميين الصينيين برامج طويلة على نفقتها للزيارة والبحث، والعامل المحوري في هذه الإستراتيجية هو وجود بنية تحتية معرفية صينولوجية دعمتها الحكومة الإسرائيلية منذ خمسينات القرن الماضي قبل شروعها في علاقات رسمية مع الصين عام 1992.
نحن -إذاً- في أمس الحاجة إلى بناء أُسس دراسات صينولوجية عربية من خلال: افتتاح مراكز بحثية آسيوية، والتركيز في الدراسات الآسيوية والصينية، وتقوية الشراكات العلمية بين دوائرنا الأكاديمية المتخصصة والجهات الدبلوماسية، من أجل إحداث نقلة نوعية في العلاقات العربية الصينية، ورفع مستوى التفاعلات الرسمية وغير الرسمية بين الطرفين، خصوصا أننا نمتلك إرثا صينولوجيا يتمثل في كتابات: هادي العلوي، وهشام بهبهاني، وسمير أمين، وغيرهم، وما نحتاج إليه هو الدعم السياسي والمؤسساتي، خصوصا في الخليج، لإنهاء الوضع «المُبعثر» للصينولوجيا العربية، ودعم أُسسها، وتوظيفها بالشكل الذي يخدمنا، ويخدم الصين، على المدى الطويل.