خالد صالح الفاضلي

كان قاسياً على مسارات ومعادلات التنمية البشرية في (الخليج والسعودية) انتقال أبناء الرعاة والفلاحين (بتسارع كبير، وحشد غفير) إلى أبناء كليات علمية وطبية، فالانتقال ببلد كامل من (أب راع) إلى (ابن عالم) يتسبب بتصدعات معيشية، وخلل نفسي واستهلاكي، وأخلاقي.

كان إنجاب أسرة فلاح أو راع لطبيب أو مهندس، حكاية تستحق حمداً، وإكباراً، وإشادة عندما كان في ذلك ندرة، وملحمة كفاح، أما ما يحدث الآن فإننا توقفنا عن إنتاج قطعان الماشية، وتفرغنا لإنتاج قطعان الدكاترة.

وكان أجدر بنا (لو كان للقوم حكيم آنذاك) أن لا تبدأ دول الخليج (إنتاج أطباء) حتى يتحقق لها اكتفاء، ورفاء في كل مجالات التمريض، الأشعة، المختبرات، الإدارة، والتقنية، ثم ننتقل إلى خطوط الإنتاج العليا (أطباء، وجراحون)، وذلك ليس حفاظاً على تدرجات مهنية فقط، بل أيضاً منع التراكيب الأخلاقية، السلوكية، والاستهلاكية من مواجهة (سرطاناتها) المنتشرة الآن.

يسير الخليج مهنياً على طرقات مليئة بثقوب متنوعة حجماً، وشكلاً، وكل أقدامه غير ذات سلامة، فالجسد المهني (طب وغيره) أقرب لوصف (خيش، لا يمسك) ماء تريليونات من الدولارات خلال آخر ستة عقود، وأخفق الخليج في سد كل الفراغات المهنية بكوادر وطنية، بينما حققته دول مجاورة في مسارات علمية، طبية، ثقافية، وفنون الدراما والرسم.

أعود للتنوير لناحية أن الثقوب المهنية يقابلها ثقوب سلوكية، واستهلاكية، وأخلاقية، وربما تعبدية، (لأن هجرتنا الجماعية والسريعة من ديار الرعاة والفلاحين، إلى ديار الدكاترة والمهندسين) تتطابق في نتائجها البعيدة مع ناتج هجرات قسرية، تحت سطوة الدهر، أو القهر، لناحية تفتيت نواة المجتمعات (أقصد الأسرة)، ونواة الاستقرار الاقتصادي للأسرة.

خرج الخليجيون من كواكبهم المهنية، الثلاث الكبرى (فلاح، بحار، راع) وتحولوا إلى (طفرة جديدة) لا تشبه سياقهم المعيشي، العلمي، الثقافي، الغذائي، الوجداني، الفلسفي، الأخلاقي، السلوكي، الاستهلاكي... إلخ، وتحول مجتمع الخليج الجديد إلى أحد مشتقات النفط، (كائن جديد، له سمات جديدة) تماماً كبقية منتجات النفط (له وصف، وقيمة في الأسواق الاستهلاكية) أيضاً مؤشرات صعود ونزول.

تناديني مدينة تبوك صباح كل شهر، وهزيع ليله الأخير، (ولأنني لا أعيش داخل معمعتها، ولأن الغياب يكشف تغيرات الوزن والمنحنيات في أطراف المدينة، أو أرداف الجميلة) فإن شارع مدينتي (تبوك) يحقق ما كنت أقصده، (رحلة الراعي إلى طبيب) رواية لا أنصح بقراءتها.

الخلاصة: نحن لا نشبه آباءنا في فلسفتهم، ولسنا امتدادا لهم، لأننا نمارس معرفة وحرفة مختلفتين، وبالتالي تورطنا بتشوهات تتكاثر، منعزلين تاريخياً وجغرافياً عن كل جذورنا، (الجذور مسؤولة عن الاستقرار النفسي والاقتصادي والثقافي للأمم) وأخشى أن تكون مستشفياتنا النفسية أكثر عدداً من سجوننا.