عبدالحق عزوزي

أبهرتني الكلمة التي ألقاها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة في الجلسة الختامية لـ«مجلس محمد بن زايد لأجيال المستقبل»، وأنا أتابعها مباشرة من مدينة فاس المغربية على إحدى القنوات الإماراتية. ومن حسن الصدف أن متابعتي لها كانت بعد رجوعي من الجامعة التي أدرس فيها، حيث كان لي موعد مع طلبتي الذين أعطيتهم درساً في موضوع دور العقل والفكر في تقدم الأمم في إطار مادتي السياسات العمومية والحريات العامة اللتين أدرسهما. وقد تطرق سمو الشيخ محمد بن زايد لمواضيع كثيرة كلها تصب في رقي شعبه وسعادة أبنائه وكيف تبني شعوب مثل اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية دولها، وذلك عن طريق انبثاق ونمو وإدخال كل الطاقات البشرية في مجال التنمية التشاركية، وبذلك نكون قد حققنا وسائل للتغيير نحو الأنماط المجتمعية التي تسمح، ليس فقط بتحقيق القيم الإنسانية المثلى، بل أيضاً بزيادة قدرتها على التحكم والسيطرة على نمو المجتمع. فالتنمية عملية شمولية تتكامل فيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي بالتالي عملية مخططة ومحكمة تحدث تغييراً جذريّاً في بناء اقتصادي قوي، كما تكون السياسة التنموية تعبيراً عن آراء المواطنين واستجابة لحاجاتهم.

وهذه المقاربة الاستراتيجية التي أعطى فيها سمو الشيخ كلمة ذات مغازٍ لا متناهية حوت درر المعاني، قد ورثها من الباني الأول المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد رحمه الله، وهي تقوم على الاستثمار الاجتماعي، انطلاقاً من مقولة القدماء «لا تعطني سمكة كل يوم، ولكن علمني كيف أصطاد»، بمعنى أن توفير فرص الشغل وتشجيع الاستثمار والمبادرات الفردية هي خير وقاية من الهشاشة، وأكبر تثبيت للسلم الاجتماعي، وليس الصدقة محدودة الأثر والتأثير على السكان وذات الثقل المستمر على ميزانية الدولة. فالنجاح الكبير الذي حققته الدولة قام على أساس الاتصال الوثيق الذي بناه المؤسس الشيخ زايد رحمه الله، منذ مطلع حياته السياسية مع القاعدة الشعبية التي أيدته، ولم تقتصر تلك الصلة على كبار شخصيات المجتمع وزعاماته القبلية ولكنها شملت أيضاً كل فئاته، فقد تبدت بوضوح درجة ترابطه مع عامة الناس ومعايشته همومهم وآمالهم ومتطلباتهم الأساسية بصورة دائمة تفوق الوصف.

إن تركيبة المجتمعات الخليجية وتاريخها لهما سمات خاصة، فالبنية الاجتماعية في المنطقة لا تزال تقليدية وقبلية في جوهرها، وتوضح سيرة الشيخ زايد الظروف والأسباب التي جعلته يتقن مهارات الدبلوماسية والتفاوض والتعامل الشخصي المباشر مع أبناء شعبه، كما يوضح لنا سجله الحافل بالإنجازات الكبيرة مدى قدرته على اختيار الطرق المناسبة لتحقيق أهدافه المرجوة بعيدة المدى عن طريق استخدامه الرشيد لكل الموارد المتاحة. إن العلاقة الوثيقة والمستمرة مع أبناء شعبه، هي التي وفّرت له أفضل قاعدة لتحقيق هذا النجاح المستمر، وبالقدر نفسه أثبت الشيخ زايد تفرده وبراعته في تعامله مع إخوانه الحكام ومع الأسرة الدولية(...) كما كان الشيخ زايد واقعياً ومبدعاً، وكلتاهما موهبة ضرورية في عالم دائم التغيير. ومع ذلك فإنه لم يقبل أي انتقاص من قيمة التقاليد، فالتقاليد بالنسبة له هي لبنة التماسك الاجتماعي، ولكن من دون جمود أو تخشب، وكذلك الأمر مع الحداثة. ولعل التسامح كان أعظم فضائله حتى في المواقف التي كثيراً ما يكون فيها من الأسهل الاستسلام للعصبية.

لقد سبقني الأستاذ محمد الحمادي على صفحات هذه الجريدة الغراء عندما وصف كلمة سمو الشيخ محمد بن زايد «بخطاب القائد الملهم والأب الحاني،» وهو الوصف الذي أراه جامعاً شاملًا لكلمة سموه في الجلسة الختامية لـ«مجلس محمد بن زايد لأجيال المستقبل» هذا المنتدى الشبابي الذي استمر في أبوظبي يومين، وجمع المئات من شباب الإمارات، وضم العديد من الجلسات وورش العمل التي شارك فيها وزراء وكبار المسؤولين. لقد رسمت كلمة سموه للشباب خريطة طريق للمستقبل.. والجميل في هذه الكلمة أنه تبعتها مباشرة تغريدة من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، يؤكد فيها تحويل ما جاء في تلك الكلمة إلى برنامج عمل حكومي في القطاعات المعنية كافة. ‬ولا ‬يفوتني ‬هنا ‬أن ‬أشيد ‬وأحيي ‬بحرارة ‬ما ‬حمله ‬خطابه ‬عندما ‬أشاد ‬بأمهات ‬شهداء ‬دولة ‬الإمارات ‬وبكل ‬الأمهات ‬اللواتي ‬قمن ‬على ‬تربية ‬الأجيال، ‬فهن ‬لم ‬يتخرجن ‬من ‬الجامعات ‬ولكنهن ‬أتقن ‬علم ‬الكلام ‬وعلمن ‬أولادهن ‬الأدب ‬وفن ‬الحياة ‬وحسن ‬المعاملة ‬والاحترام ‬ومعنى ‬الإيمان ‬وحب ‬الأوطان، ‬ولم ‬يدرسن ‬التخطيط ‬ولكنهن ‬كونّ ‬أجيالًا ‬من ‬بناة ‬البلد ‬ذوي ‬بعد ‬نظر ‬وذوي ‬مواقف ‬ومبادئ ‬والكلمة ‬الطيبة، ‬فطوبى ‬لدولة ‬الإمارات ‬بهؤلاء الأمهات ‬والأبناء.