رضوان السيد

كان أستاذنا بالأزهر الشيخ عبد الحليم محمود (شيخ الأزهر لاحقاً) يملك نظرية أو فرضية لستُ أدري أصلها تقول إنّ العالم يحتوي على كميتين متساويتين ومتوازيتين من الخير والشر (وما سألناه وقتها، عام 1969: في الطبيعة والإنسان أم في الأفعال الإنسانية وحدها؟)، إنما لأسبابٍ محيطية أو سياقية يظهر الخير على الشر أو يظهر الشر على الخير ودائماً بشكلٍ مؤقت، ثم يعود الأمر إلى أصله في التوازن. وكان الرجل يتابع: إننا مقبلون على فترة يظهر فيها الخير على الشر، وكان يربطها بالمصطلح الذي سمعتُه منه لأول مرة: عودة الدين.


وفي الواقع، وبعد الدراسات الكثيرة في العقدين الأخيرين عن «عودة الدين» فإنّ النهوض الديني كان شاملاً ولا يزال. وقد ارتبط في سائر الديانات الناهضة باتجاهٍ غلاّب للتأثير لصالح الدين في المجال العام. وهذا يصدق حتى في الديانات التي ما كانت لها اهتماماتٌ ظاهرة في تاريخها بالشأن العام مثل البوذية والهندوسية. إنما الطريف أنّ الدارسين الذين يذكرون ذلك كلَّه، يخصُّون الإسلام من بين الديانات التي تشهد عودة قوية بالنظر في تاريخه وفي أصوله. هم ينظرون في تاريخ البوذية والهندوسية والكاثوليكية ليزعموا أنّ ظاهرة التسيُّس ما كانت أصيلة فيها في القرون الثلاثة الأخيرة. ولذلك يرجّحون أن تخمد هذه الموجة فيها، وإن لم يخمد نهوضها؛ بينما يصلون في حالة الإسلام إلى أنّ الظاهرة السياسية أصيلة في أصول الإسلام وتاريخه، ولذلك لا يُنتظر أن تنحسر قريباً.
وعلى أي حال؛ فمنذ أكثر من قرن، وقبل ظهور مقولة «عودة الدين» بزمنٍ طويل، جرت دراسة «طبيعة الإسلام» بمناهج سوسيولوجية وإنثروبولوجية غربية، ارتأت أنه وقياساً على التاريخ الأوروبي وتجارب العلاقة بين الكنيسة والدولة؛ فإنّ هذا «التدامج» الظاهر بين الإسلام والدولة ينبغي أن ينكسر لكي تستطيع الدولة التنفس والانطلاق. لقد كانت هذه وجهة نظر فرح أنطون الذي ردَّ عليه الشيخ محمد عبده (1902) بالذهاب إلى أنّ نظام الحكم في الإسلام مدني؛ بمعنى أن البشر أنتجوه، ولم ينتجه أو يفرضه الدين. وهي دعوى كررها كل الإصلاحيين تحت عنوان أنه ليست في الإسلام سلطة سياسية ذات طابع كهنوتي أو أصل كهنوتي مثل البابوية الوسيطة. والواقع أنّ التقليديين المسلمين اصطنعوا أزمة في العشرينات من القرن الماضي من حول إلغاء مصطفى كمال للخلافة، وكتاب علي عبد الرازق: الإسلام وأصول الحكم، مع أنّ التقليد الإسلامي السني كلّه لا يعتبر الخلافة دولة دينية. فكل المتكلمين والفقهاء المسلمين يعتبرون «الإمامة» مصلحية وتدبيرية وليست تعبدية أو أنها ليست من أصول الدين. وهكذا فالمسألة ليست مسألة واقع أو تقليد، بل هي مسألة وعي جديد ولدى التقليديين والإصلاحيين ولاحقاً الإحيائيين الأُصوليين. وهذا الوعي يتجاهل الرؤى التقليدية، ليزعم أنّ الإمامة أو السلطة الإسلامية يتشارك فيها العقل والدين، ولذا فإنّ ذهابها يعني ذهاب جزءٍ من الدين. وقد صار الأمر لاحقاً بعد سواد الإحيائيات والجهاديات أنّ السلطة ركنٌ من أركان الدين، لأنها مكلّفة بتطبيق الشريعة. وكان الأَولى أن يحصل هذا التطور عند الشيعة كما حصل عند السنة. فالإمامة عندهم ركنٌ من أركان الدين، لكنه كان ركناً مؤجَّلاً، وقد دفعت ضرورات حماية الدين لاستحضاره الآن رغم استمرار غيبة الإمام!
لقد ساد المنهج الغربي إذن في رؤية مسألة السلطة في الإسلام؛ فإمّا اندماجٌ عائدٌ بعد الغزو الغربي، وهو ضروري لاستعادة الدين بسلطة الدولة وبالتالي تحريم وتجريم دخول الحداثة القاطعة بشروطها - وإمّا فصلٌ يتيح دخول دولنا واجتماعنا الإنساني في الحداثة. وهذا المنطق الحاسم اعتنقه سائر المفكرين العرب الكبار في الخمسين سنة الأخيرة.
لماذا يكون ضرورياً الاتصال الكامل أو الانفصال الكامل، وليس في الحاضر وحسْب؛ بل وفي التاريخ والأصول؟ إنّ هذا المنهج لا يصحُّ بالنظر إلى الأصول والتاريخ، كما أنه لا يمكن إحقاقه بالحاضر، لأنه متعلقٌ ليس بالتعاليم؛ بل هو متعلقٌ أيضاً بالوعي والمشاعر والمصالح. وقد قلنا إنّ مسألة تسييس الدين أو فرضه على المجتمعات من طريق الدولة هو وعي جديدٌ ومذهبٌ جديدٌ ليس له أصلٌ ثابتٌ في الفقه والكلام. أما في التاريخ (وليس في الأصول)، فقد كان هناك وبشكل موضوعي تمييزٌ وتمايز من جهة، وتشابُك وتداخُل من جهة ثانية. التمييز والتمايز واضح في اللجوء إلى الشورى وأهل الحل والعقد في «اختيار» الإمام، وفي اعتباره غير معصوم وليس لسلطته أصلٌ ديني. والتشابُك أو التداخل ظاهرٌ أنه مع التمايز بين المجالين الديني والسياسي، ووجود مناطق أو مساحات رمزية وأُخرى وظيفية يتداخل فيها المجالان، تبدو فيها السلطة مكلفة من الجماعة بإنفاذ بعض الأمور ذات الطابع الديني، وهذا إلى الرمزية الظاهرة في عناوين مثل دولة الإسلام، وهي بالأحرى (أي الخلافة) دولة المسلمين! ونحن نعلم أنّ السلطة في الأزمنة الوسيطة والكلاسيكية كانت تميل لاعتبار نفسها «حارسة للدين» من أجل تقوية شرعيتها، أو الانتصار به على فئات المعارضين. وإذا تعلقت درجة التشابك أو الترابط بمطامح السلطة من جهة؛ فإنها تتعلق من جهة أخرى بمطامح المؤسسات الدينية، والتي كانت ولا تزال (وشأنها في ذلك شأن السلطات السياسية أي أنها مفتوحة وغير معصومة) عندما تقوى بسبب ضعف السلطة السياسية، تهبُ نفسَها صلاحيات ما كانت لها بحجة صون الدين والجماعة من الفوضى، وعندما تضعُف تميل للانعزال أو فصل الديني عن السياسي حتى لا تستولي السلطة السياسية على الدين.
ما معنى عودة الدين في المجال العالمي، وفي مجالنا الإسلامي؟ الأمر يختلف. ففي المجالات غير الإسلامية تعني العودة الدينية أو الفرديات أو تفاقم الخصوصيات: تمرداً على الدولة العقلانية الوطنية والقومية ذات السلطة المطلقة. وقد راحت السلطات ممثلة بالأحزاب السياسية الكبرى تعدو وراء جماعات الخصوصية لكسب الأصوات في الانتخابات فضاعت الحدود بين العام والخاص، والحريات الفردية، والمسؤولية الجماعية.
أما في مجالنا العربي والإسلامي، فإنّ تجربة الدولة الوطنية ذات الشعبية المعتبرة بسبب النضال ضد الاستعمار، سُرعان ما تضاءلت نجاحاتها بسبب استيلاء النخب العسكرية والأمنية عليها وتحولها إلى دولٍ تابعة في الحرب الباردة. وقد صار شأن المؤسسات الدينية مثل شأن المؤسسات السياسية، صعدت بصعودها وهبطت بهبوطها، فاختلط التمرد على الدولة الوطنية المتردية الأحوال، بالتمرد على المؤسسات الدينية الضعيفة والتابعة، وتزامن ذلك مع «عودة الدين» وتحويلات الإحيائيين في المفاهيم، وتعملق دعاوى القطيعة مع الموروث الديني بداعية الحداثة. وهكذا صارت الدعاوى الاجتماعية والسياسية دعاوى دينية، وصار من مهمات الدولة الجديدة التي يراد إحقاقها إقامة الدين وتطبيق الشريعة. ولا يزال الاختلال يتعاظم لأنّ الدولة الوطنية لم تتحسن ظروفها ولا أداؤها. بينما سيطرت على ناصية الدين جماعاتٌ جهادية متطرفة، أين منها يساريات السبعينات الراديكالية في أوروبا!
هناك دين، وهناك دولة وسياسة لإدارة الشأن العام. أما الدين السياسي الجديد فيُحدث اختلالاً في الدين أولاً، وفي الدولة والإدارة ثانياً.. . . . .