مرت أمس، الذكرى السنوية الرابعة عشرة لانطلاق الحرب التي قادها التحالف الدولي المؤلف من 33 دولة بزعامة الولايات المتحدة الأميركية وأدت بعد مرور عشرين يوما على انطلاقها إلى إطاحة حكم صدام حسين في التاسع من أبريل (نيسان) 2003.

وتزامنت الذكرى مع وصول رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى الولايات المتحدة الأميركية بدعوة رسمية من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ويقول بيان صادر عن مكتبه، إنه سيلتقي مسؤولين في الإدارة الأميركية وأعضاء بالكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي لتعزيز التعاون بين البلدين في المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية.

ويتذكر أغلب العراقيين كيف ظهر صدام حسين قبل 14 عاما وهو يرتدي نظارات طبية سميكة غير مألوفة، ليخبرهم بانطلاق الغزو بقيادة الولايات المتحدة، ومنذ ذلك التاريخ والبلاد لا تخرج من اضطراب إلا ودخلت في آخر مماثل.

دشن الأميركيون احتلالهم للعراق بتعيين الجنرال المتقاعد جي كارنر في 21 أبريل 2003، مسؤولا عن مكتب المساعدة في إعمار العراق، وبعد نحو شهرين استبدلت «سلطة الائتلاف الموحدة» به، بإدارة الحاكم المدني بول بريمر في 6 مايو (أيار) 2003، وخلال فترة السنة الواحدة التي قضاها بريمر في حكم العراق، أسس، وبنظر أغلب العراقيين، لجميع الاضطرابات السياسية والأمنية والاقتصادية التي حدثت لاحقا. وكانت أولى ملامحها تأسيس «مجلس الحكم» العراقي الذي اختير له 25 عضوا من المكونات العراقية، بواقع 13 شخصية سياسية شيعية و5 شخصيات كردية ومثلها سنية، إلى جانب شخصيتين عن المسيح والتركمان، وبذلك دشن الاحتلال الأميركي نظاما سياسيا بمواصفات طائفية وإثنية، وسيرسخ أعضاء مجلس الحكم المعارضون السابقون لنظام صدام والزعماء اللاحقون للأحزاب والقوميات والطوائف المتنافسة نظام المحاصصة اللاحق.

وخلال السنة التي قضاها مجلس الحكم في السلطة تولى «رئاسة» العراق الدورية 12 عضوا، بواقع واحد لكل شهر، ومن بين أبرز الشخصيات التي اختارها بريمر لعضوية مجلس الحكم الانتقالي وتولت رئاسته الدورية، الرئيس السابق جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني والراحلان عبد العزيز الحكيم وأحمد الجلبي ونائب الرئيس الحالي إياد علاوي ووزير الخارجية إبراهيم الجعفري، ولم يتول السياسي السني المخضرم عدنان الباجه جي رئاسة المجلس وتولى بدلا عنه الشيخ غازي عجيل الياور، كذلك لم يتول الرئاسة حينذاك، زعيم الحزب الشيوعي العراقي حميد مجيد موسى، بعد أن اختير ضمن الأعضاء الشيعة في مجلس الحكم.

وإضافة إلى إرساء أسس التقسيم الإثني والطائفي عبر مجلس الحكم في العهد الجديد، عمد بريمر إلى حل الجيش وإعادة هيكلة جميع مؤسسات الدولة، ثم ألحقه بقرار «اجتثاث البعث»، الأمر الذي انعكس على شكل فوضى واضطراب أمنيين في وقت لاحق، عقب التحاق كثير من ضباط وأعضاء البعث بالقوى المسلحة المناهضة للاحتلال.

ملامح الانقسام العراقي بدت واضحة منذ الأيام الأولى لرحيل نظام البعث، سواء بين الطوائف نفسها، أو فيما بينها وبين الآخرين حتى قبل وصول بريمر إلى العراق. كذلك برزت في وقت مبكر ما كان نظام صدام القوى قادرا على كبحة من ضغائن وأحقاد متبادلة بين مختلف المكونات، ففي محافظة النجف ذات الأغلبية الشيعية اغتال شباب ناقمون مقربون من آل الصدر، عبد المجيد الخوئي، نجل المراجع الشيعي الأكبر أبو القاسم الخوئي في أبريل 2003، وفي نفس الشهر أعلن مقتدى الصدر تأسيس «جيش المهدي» تحت عنوان «مقاومة الاحتلال».

وفي وقت مبكر فرض تنظيم القاعدة وجوده كإحدى أبرز القوى المناهضة للاحتلال في العراق، حيث قام بأول عملية تفجير على السفارة الأردنية في بغداد نفذها أبو مصعب الزرقاوي في 10 يونيو (حزيران) 2003، ثم وقع تفجير النجف الكبير وأودى بحياة المئات، بجانب زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، محمد باقر الحكيم في شهر أغسطس (آب) 2003.

انتهى عام بريمر وعهد مجلس الحكم العراقي، وحلت محلهما الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة إياد علاوي في 28 يونيو(حزيران) 2004، التي خاضت معارك شرسة ضد جيش المهدي في النجف والجماعات المسلحة في الفلوجة، ثم مهدت لانتخاب «الجمعية الوطنية» المكلفة بكتابة الدستور وإجراء الانتخابات البرلمانية العامة، وبحلول أبريل 2005، انتهت فترة حكومة علاوي وبدا من خلال التسليم السلس والسلمي للسلطة من قبل علاوي إلى نظيره إبراهيم الجعفري وكأن البلاد غادرت مسيرة العنف والانقلابات العسكرية التي طبعت تاريخه الحديث، لكن تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير (شباط) 2006، وضع البلاد على سكة الكوارث والحرب الأهلية المعلنة بين السنة والشيعة.

ثم غادر الجعفري رئاسة الوزراء بعد أن أجرى الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية العامة لأول مرة، وأظهرت تلك الانتخابات بما لا يقبل الشك، القوى الأساسية الثلاثة التي ستهيمن لاحقا على الفضاء السياسي، وكان واضحا تمثيلها للأسس الطائفية والقومية التي حكمت البلاد بعد 2003، حيث فاز في الانتخابات ثلاث قوى أساسية، هي «الائتلاف الموحد» الشيعي و«التحالف الكردستاني» و«جبهة التوافق» السنية.

حصل «الائتلاف الموحد» على أعلى نسبة من المقاعد النيابية (128 مقعدا) في انتخابات 2005، واستنادا إلى نظام الحكم البرلماني الذي أقره الدستور، فإن نسبة مقاعده تؤهله لرئاسة الوزراء، المنصب التنفيذي الأول في البلاد، وتمكن نوري المالكي من الفوز بدورته الأولى مطلع 2006، وحصل جلال الطالباني على منصب رئاسة الجمهورية البروتوكولي، وهو أول شخصية كردية تتقلد المنصب في تاريخ العراق. أدى المالكي اليمين الدستورية رئيسا للوزراء بعد مخاض عسير في 20 مايو 2006، وبدا أنه ورث من سلفه الجعفري اضطرابات أمنية كبيرة نتيجة تفجير المرقدين في سامراء وتنامي نفوذ تنظيم القاعدة في المناطق السنية وميليشيا جيش المهدي في بغداد والمحافظات الشيعية، فعمد إلى ضرب الأخير في البصرة عام 2007، لكنه أخفق في التعامل مع «القاعدة»، حتى قام الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق عام 2008، بتأسيس قوات «الصحوات» في المناطق السنية، وتمكنت نسبيا من السيطرة على الأمور في محافظة الرمادي المعقل الرئيسي لـ«القاعدة».

ومع نهاية الدورة الوزارية الأولى للمالكي، تبين لأغلب القوى السياسية أن الرجل يميل إلى التفرد بالقرار وعدم الاكتراث بالآخرين، فصمم الجميع على حرمانه من الفوز بولاية ثانية. إلا أن المالكي تمكن عام 2010 من الفوز بولاية ثانية، بعد أن تمكن من «التحايل» عبر قرار قضائي على إقصاء خصمه علاوي الفائز بـ91 مقعدا بعد أن قاد ائتلافا يجمع أغلب القوى السنية وبعض القوى العلمانية، في مقابل حصول قائمة ائتلاف «دولة القانون» بزعامة المالكي على 89 من أصل 325 مقعدا.

أظهر المالكي في دورته الثانية سلوكا عدائيا ضد أغلب شركائه السياسيين، وكادت أن تنشب بينه وبين إقليم كردستان معركة عسكرية في كركوك، وهيمن خلال هذه الدورة على أغلب مفاصل الدولة وهيئاتها المستقلة، وظل يشرف بالوكالة على وزارتي الداخلية والدفاع، بعد أن رفض تعيين مرشحي بقية الكتل لهما.

وبعد خروج القوات الأميركية نهاية عام 2011، شن المالكي حملة تنكيل بخصومه السنة فهرب نائب الرئيس طارق الهاشمي خارج العراق على خلفية تهم غير مؤكدة بدعم الإرهاب، كما لاحق وزير المالية رافع العيساوي بالتهم ذاتها، ووصل الصدام بين وبينه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حدودا غير مسبوقة، كما أعلنت المحافظات السنية سلسلة احتجاجات واعتصامات ضده حكمه، قام بتفريقها بالقوة، وفي يونيو 2014، تمكن تنظيم داعش من السيطرة على أجزاء من محافظات، نينوى، ديالى، كركوك، صلاح الدين، الأنبار.

وبرغم فوزه بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات 2014، وتمسكه بالولاية الثالثة، تمكنت القوى السياسية المختلفة ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدولة الإقليمية من إرغامه على التخلي عن حلم الولاية الثالثة، وتعيين رفيقه في حزب الدعوة حيدر العبادي بديلا عنه.

واليوم وبعد مرور 14 عاما على الاحتلال الأميركي للعراق، وبرغم نجاح حكومة العبادي في طرد تنظيم داعش من أغلب المحافظات العراقية التي سيطر عليها، ينظر العراقيون إلى تلك السنوات المليئة بالعنف والمرارة والفساد وكأنها كابوس ثقيل، ولم يتوقع أشد المتشائمين أن يجلب التغيير الأميركي لهم كل هذا البلاء، حيث قتل آلاف العراقيين وخسرت البلاد مليارات الدولارات نتيجة الفساد والمحسوبية، وأصيبت البنى التحتية بدمار شديد من دون أمل في إصلاحها، كذلك تعرض السكان نتيجة أعمال العنف والحروب إلى أكبر موجة نزوح في تاريخ البلاد، إذ يقدر المعنيون عدد المهجرين والنازحين في داخل وخارج العراق بنحو 5 ملايين مواطن، كما تراجعت مستويات التعليم والصحة إلى مستويات غير مسبوقة..