هادي اليامي

بعد جولة استمرت عدة أسابيع، عاد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والوفد المرافق له، بعد زيارة شملت خمسا من أكبر الدول الآسيوية، أثبتت تفاصيلها حجم المكانة التي تتمتع بها المملكة العربية السعودية، والتوافق الكبير الذي يجمعها مع تلك الدول، والقواسم المشتركة التي تربطها بها. وشهد العالم كله كيف أن تلك الدول تبارت في الترحيب بالملك السعودي، وتسابقت في تكريمه، ومنحته أرفع أوسمتها، وشهادات التكريم من جامعاتها المرموقة.


هذا التكريم والتقدير لم يأت من فراغ، ولم يكن دافعه فقط الرغبة في استثمارات تجمعها بالمملكة، فتلك الدول من ذوات الاقتصادات الضخمة والمداخيل المرتفعة، وثلاث منها أعضاء بمجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم، لكن تكريمها لخادم الحرمين كان منطلقا من قناعات راسخة، باعتدال الموقف السعودي، وقيادة المملكة الحكيمة للعالم الإسلامي وسياساتها المتزنة في العالم أجمع، وهي السياسات التي أكسبت المملكة مكانة رفيعة، وحنت رؤوس الآخرين تقديرا لها.
لم تركز الزيارات المختلفة على الجوانب الاقتصادية والاستثمارية، رغم أهميتها، إنما حرص الملك سلمان على التقاء قيادات العمل الإسلامي بتلك الدول، وحثهم على إبراز الوجه الحقيقي للإسلام، وتصحيح الصورة التي يريد الآخرون إلصاقها به، دون وجه حق، بزعم أنه يدعو للعنف والتطرف ولا يعترف بالآخر، فكانت كلماته واضحة، بضرورة الدعوة للحوار، مؤكدا أن ديننا الحنيف هو دين التسامح والحوار، لا إقصاء فيه ولا استبعاد لأحد، محذرا من تزايد ظاهرة الإرهاب، بوصفها الخطر الأكبر الذي يهدد العالم اليوم. ولم تخل كلمة من كلماته الضافية التي ألقاها من تأكيد هذه المفاهيم السامية، والدعوة إلى احترام الآخر والتعايش معه، مشيرا إلى الدور السعودي الكبير في هذا الصدد، حيث بادرت المملكة بإنشاء مركز حوار أتباع الأديان والثقافات بفيينا.
هذه المواقف المشرقة والمبادئ الثابتة هي التي أكسبت بلادنا ما تتمتع به من مكانة وسط الأمم، وتقدير واحترام، وهذه هي الدبلوماسية التي تبني ولا تهدم، لا مهاترة فيها ولا تراشق، إنما احترام متبادل، ومنهج واضح، لا يرمز لضعف أو خوار، إنما هو منهج القوي الواثق من قوة حجته وثبات موقفه وسطوع برهانه.
لم تغب رؤية المملكة 2030 عن أجندة الزيارة، بل كانت حاضرة بقوة، حيث سارعت اثنتان من أكبر الدول الآسيوية اللتان تحتلان ثاني وسادس أكبر اقتصادات العالم، وهما الصين واليابان إلى تكوين رؤى مماثلة تندمج مع تلك الرؤية وتسايرها، فالأولى دمجت الرؤية مع مبادرة الحزام والطريق التي تعكف على تنفيذها، والثانية أنشأت رؤية «المملكة واليابان 2030»، بحثا عن القواسم المشتركة التي تجمع بين البلدين وخططهما الاقتصادية، بهدف تحقيق المصالح المتشابهة، وبالتقنية التي تمتلكها اليابان والصين، والثورة الصناعية التي تحققت فيهما، فإن المجتمع السعودي موعود بتحول كبير، يصب في صالح أجياله المقبلة، ويحقق مكاسب اقتصادية هائلة لمصلحة هذه البلاد.
الخطوات التي اتخذتها القيادة السعودية تؤكد أن مشروع الرؤية تحول من مجرد نظريات اقتصادية واجتماعية إلى واقع معاش، سيرى المواطنون أثره في حياتهم، قريبا، وإن كان من خطوات ضرورية لا بد من القيام بها فتتمثل في حتمية أن تسارع الوزارات والإدارات الحكومية المختلفة إلى مسايرة هذا الواقع، والتخلص من كافة المعوقات التي ظلت تكبل انطلاق الاقتصاد السعودي إلى آفاق أرحب.
وإضافة إلى المكاسب الاقتصادية، فقد شهدت الزيارة توقيع عشرات الاتفاقيات التي شملت الجوانب الثقافية والتعليمية، وتم عقد ملتقيات أكاديمية، وافتتحت مكتبة الملك عبدالعزيز فرعا لها في قلب جامعة بكين، لتكون مصدر إشعاع علمي وثقافي، وجسرا يربط مسلمي الصين بإخوانهم في العالم الإسلامي، وهي خطوة تمت بطلب من الرئيس الصيني، ومتابعة شخصية منه.
وفي الوقت الذي كان فيه خادم الحرمين الشريفين يواصل زيارته الآسيوية، التقى ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكبار وزراء إدارته، في العاصمة واشنطن، في زيارة أحسب أن تأثيرها سيظهر في المستقبل القريب، ولا أدل على ذلك من الاهتمام الواسع الذي أولته كبريات الصحف ووسائل الإعلام الأميركية بالزيارة، لدرجة أن صحيفة نيويورك تايمز المرموقة أكدت أنها أسهمت في تغيير آراء ترمب حول كثير من قضايا الشرق الأوسط، حتى الرئيس الأميركي نفسه كسر البروتوكول المتعارف عليه، عندما حوّل مناسبة الغداء التي جمعته بولي ولي العهد إلى اجتماع مطول، اقتصر في البدء على الاثنين فقط، قبل أن يبادر بدعوة أركان إدارته ليسمعوا كلمات الأمير بأنفسهم، ومن ثم دعا ممثلي وسائل الإعلام للحضور.
دار محور اللقاء حول أوضاع الشرق الأوسط، وكان هناك تطابق في الرؤى حول الدور السالب الذي يقوم به النظام الإيراني في المنطقة، وأهمية وضع حد لتدخلات طهران في شؤون الدول العربية، إضافة إلى التصدي لخطر التنظيمات الإرهابية، وفي مقدمتها تنظيما داعش والقاعدة، وكعادتهم لم ينس مسؤولونا مناقشة قضايا إخوانهم العرب، فكانت القضية الفلسطينية حاضرة في صلب المناقشات، إضافة إلى التأكيد على حتمية إيجاد حلول لأزمات سورية واليمن، كمدخل رئيسي لهزيمة التشدد، وإبطال الذرائع التي يستخدمها المتطرفون لتجنيد المغرر بهم، وتقديم الدعم للبحرين ومصر والسودان.
الحفاوة التي يقابل بها مسؤولونا في الخارج، والاحترام الذي تلقاه بلادنا عند الآخرين، يشير إلى حقيقة بديهية، مفادها أننا نسير على الطريق الصحيح، وأن النهج الذي اختطته بلاد الحرمين الشريفين، وسارت عليه منذ تأسيسها، يؤتي حصاده، وأن سياسة الحق والوضوح تواصل تقدمها، على حساب أصحاب الأجندة الطائفية البالية، الذين ما زالوا يتمسكون بتفاصيل أكل عليها الدهر وشرب، واستغلوها لزرع الفتنة بين الشعوب، أملا في إعادة أمجاد غابرة، وإمبراطورية غابت عنها الشمس، ولن تشرق عليها من جديد.