يوسف مكي

التحولات النوعية في المجتمعات البشرية نتاج مجموعة من التراكمات التي تختمر في المجتمع، وتتفاعل فيه مؤدية إلى حدوث خلل في التوازن في الصراع بين القديم والجديد

عند كل نازلة تمر بها الأمم، تستحضر مخزونها الحضاري، وتعيد التذكير به، لتحقيق توازنها النفسي، وكمحرض للانطلاق من جديد، ومشاركة الإنسانية مسيرتها وإبداعاتها. والعرب الآن يمرون بتحدي الاستمرارية والوجود. وحاضرهم نقيض لماضيهم التليد. وهم في هذه اللحظة أحوج ما يكونون لوعي المحركات والعناصر التي صنعت حضارتهم، ليس بهدف استنساخها، وإنما استلهام روحها في انطلاقة جديدة وواعدة، تجعل منهم ترسا إيجابيا فاعلا في الحراك الكوني الإنساني، المتجه إلى الأمام.
دارت حياة العرب قبل الإسلام حول محورين رئيسيين. الأول، المناخ وطبيعة الأرض. فقد كان المناخ قاسيا جدا معظم العام. فالشمس لافحة والحرارة مرتفعة، وتشكل الصحارى والبوادي والسهول وقلة المياه الطابع الديموغرافي العام للبلاد. وبالقدر الذي قست فيه العوامل المناخية والطبيعية بحق البلاد، فإنها لعبت دورا إيجابيا في حمايتها من الغزو الخارجي. وساعد على ذلك كونها محاطة بالبحر من ثلاث جهات، كما أبقت هذه العوامل للبلاد نقاءها. وقد عاش السكان في واحات تمركزت في القلب من الصحراء بعيدا عن متناول الطامعين والأعداء. وكان شظف العيش مصدر فتوة وتجدد دائم رافد لمجتمعات الشمال، فقد استمرت الهجرات من البادية والواحات المحيطة بها إلى المناطق الغنية، حيث خصوبة الأرض ووفرة المياه وتوفر أسباب الحضارة.
أما المحور الثاني فهو الموقع الإستراتيجي للبلاد في العالم القديم، والذي أصبح مركزا مهما لمرور التجارة الدولية، مما أتاح لأهلها أن يبدعوا كوسطاء في تلك التجارة، ومكنهم من السيطرة على طرقها لفترات طويلة. وكان ذلك عاملا أساسيا في رخاء القوم. كما ساعد وجود مراكز مرور في القلب من الجزيرة على نمو التجارة الداخلية. وقد حققت أسواقها حالة من التواصل بين المجتمعات العربية ووثقت عرى الروابط الاجتماعية، وساعدت على قيام لغة أدبية مشتركة.
كان موقع الجزيرة العربية قد جعل العرب يعيشون وسط العالم، وبين قاراته القديمة، آسيا وإفريقيا وأوروبا، فقد احتضنت ضفتا البحر الأحمر، من الشرق جزيرة العرب في آسيا، ومن الغرب مصر والسودان في إفريقيا. ولامست شواطئ البحر الأبيض المتوسط، الذي تمتد سواحله وخلجانه في قارات ثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا، عديدا من الأقطار العربية من جهتي الغرب والشمال. وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت البلاد في القلب من الحضارات القديمة: يونانية وفارسية وهندية وبيزنطية، مما جعلها عرضة لمؤثرات عديدة، مستمرة ومتصلة منها.
ومنذ ألف سنة قبل الميلاد، شكل العرب كيانات مستقلة خاصة بهم، صمدت لحقب طويلة رغم ما تعرضت له من محاولات الدول الكبرى المجاورة للهيمنة عليها. قوى ذلك الصمود نزعة التحرر وروح الاستقلال في نفوس أبناء هذه المنطقة. وترافق مع روح البداوة، بكل ما تمثله من موروثات عشائرية وقبلية، وما تتطلبه من عمل دؤوب في سبيل الحصول على الكلأ والماء، مما أدى إلى بروز ظاهرة المشاحنات والمنازعات من أجل تأمين المياه والمراعي. وعلى الرغم مما نتج عن تلك الصراعات من ظواهر سلبية، فإنها أفرزت فضائل يعتد بها العربي حتى يومنا هذا، كالفروسية والشجاعة والمروءة والتمسك بقيم ومثل مشتركة.
ومن خلال هذا الواقع، تبلور نظام اجتماعي قائم على أساس الولاء والعصبية للقبيلة، دون أن يحجب ذلك الشعور بانتماء أكبر إلى أرض ولغة وثقافة مشتركة، عبر عنه بشكل مختزل بالانتماء إلى العربية.
وفي ظل تلك العصبية، استقرت العربية لغة وحيدة للقوم، شمل التحدث بها أرجاء الجزيرة العربية والتخوم الجنوبية للعراق والشام، بالحيرة وبادية الشام. وساهم بروز الخط العربي في انتشار الأدب من شعر ونثر في عموم البلاد، مما نتج عنه خلق روابط ثقافية واجتماعية عميقة بين القبائل العربية.
وحين جاء الإسلام وامتدت رقعة بلاد العرب، بفعل الفتوحات العربية الإسلامية، لتشمل أجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا، أصبح المجتمع العربي أكثر تأثرا بالتيارات الفكرية المحيطة والوافدة، خاصة أن كثيرا ممن اعتنقوا الدين الجديد من عناصر مختلفة الانتماء، هوية وتوجهـا، حملوا معهم بعضا من معتقداتهم وثقافاتهم وسابق تراثهم. وقد أصبحت تلك التيارات الفكرية عامل تحد وإخصاب وتجديد، وساهمت في إثراء الثقافة العربية، ولم تكن عامل تضارب وتعارض وانقطاع في البنيان العربي.
وفي الفترة التي سبقت بزوغ فجر الإسلام، حاولت القوى الخارجية، بيزنطية وساسانية وحبشية النيل من الجزيرة العربية بالاعتداء على أطرافها. وإثر سقوط مملكتي الغساسنة والمناذرة، بدأت المواجهات المباشرة بين الإمبراطوريات المجاورة وبين القبائل العربية.
وحين بزغ الإسلام، لم يكتف العرب بالتصدي للمحاولات الخارجية التي تستهدفهم، بل قاموا بتقويض تلك الإمبراطوريات. وكانت نتيجة ذلك توسع الرقعة العربية، واندفاع العرب في تأسيس حضارتهم بسرعة قل أن يوجد لها نظير في التاريخ. وكانت للعوامل الروحية آثارها التي لا يستهان بها في اندفاع القوم، ذلك أنهم كانوا يتحركون في سبيل نشر دين الإسلام.. الذي هو دعوة إلى التوحيد وثورة على الوثنية، وانطلاقة عالمية، ورسالة حضارية.
على أنه مهما يكن من أثر للعوامل الروحية، فإن ذلك لا يلغي وجود عوامل موضوعية أخرى تساهم في إذكاء الموروث وتحفيز القوم للعب دورهم الحضاري، فالحضارات الإنسانية لا تنشأ من فراغ، وليست مقطوعة الجذور عن إرث وتراكمات الماضي. ومكونات التحفز الحضاري لأي أمة من الأمم لا تنشأ بين ليلة وضحاها، إنما تتشكل وتتعزز بفعل عوامل موضوعية، تأخذ صفة التراكم، وضمن سياق متصل.
وحين تبرز ظروف مواتية لاختبار تلك المكونات، تنفجر تلك العوامل دفعة واحدة، محدثة تغيرات أساسية وعميقة في بنى المجتمع، مؤدية لانعطاف حاسم وشامل في منظومة علاقاته وهياكله. بمعنى آخر، التحولات النوعية في المجتمعات البشرية نتاج مجموعة من التراكمات التي تختمر في المجتمع، وتتفاعل فيه مؤدية إلى حدوث خلل في التوازن في الصراع بين القديم والجديد، منتظرة فرصتها التاريخية لإحداث التغيير الحضاري المطلوب.
وكان ذلك بالدقة هو أحد المحركات الأساسية في الانطلاقة التاريخية للحضارة العربية.