مجد بو مجاهد

 من المفارقات النادرة في تاريخ عائلة جنبلاط اللبنانية العريقة، ان يُلبس الاب عباءة الزعامة لولده بنفسه. ذلك ان مسيرة الجنبلاطيين معمدةٌ بالدم، ويشهد على ذلك كتاب التاريخ نفسه، الذي درسناه في كتب المرحلة المتوسطة في المدرسة، اذ يظهر اسم بشير جنبلاط، الذي مات اعداماً آنذاك على يد بشير الشهابي عام 1825، قبل ان تكرّ السبحة.

وقد طرحت تساؤلاتٌ كثيرة، حول ما كان يقصده وليد جنبلاط في تكرار عبارة "ادفنوا امواتكم وانهضوا" من الذين لم يطلعوا على ماضي هذه العائلة الدرزية. لعلها استعادةٌ لحقباتٍ تاريخية، دفعت خلالها عائلة جنبلاط ثمن عنادها وشجاعتها وتمسكها بالارض ورفضها الخنوع. ولا نقول جديداً في هذا السرد، او مجاملةً، اذ ان التاريخ كتب نهايةً دموية لسعيد وفؤاد وكمال بك، بعد بشير. اللافت ان بكوات بيت جنبلاط جميعهم، كانوا يعلمون ان الموت مصيرٌ منتظر، لكنهم ساروا قدماً نحوه، ولم يفاوضوا او يتراجعوا او يختاروا وجهة الغربة. كان الشوف لهم شروق الشمس، ومغيبها.

ورغم ان تيمور جنبلاط لم يرتد عباءةً في ذلك الاحد المشهود، بل حمل امانة كوفية "جدّه الكبير كمال جنبلاط"، الا ان اقاويل الناس وانطباعاتهم، تناقلت الحدث على طريقة ان وليد بك سلّم عباءة الحكم لنجله. ذلك ان اذهانهم عادت الى لحظة ألبس شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز محمد ابو شقرا عباءة الزعامة لوليد جنبلاط بعد استشهاد والده رمزاً للقيادة. والعباءة كانت آنذاك، بمثابة مبادرة اتخذها ابو شقرا بعد استشارة مشايخ طائفة الموحدين الدروز، وهو تقليدٌ مبتكر ومتبع منهم في جبل الدروز لمبايعة شيخ العشيرة. ويعود تقليد ارتداء العباءة الى القبائل العربية الاولى، وهو تقليد عربي معتمد في شبه الجزيرة العربية ايضاً. واعتمدت القبائل العربية هذه العادات في زمن النبي محمد، اذ كانت اغراض الفقيد تسلم الى خلفه، مما يعني ان ارتداء الموحدين الدروز العباءة، يرجع الى كونهم قبائل عربية، وفق ما يقول الدكتور في التاريخ الحديث والمعاصر عماد مراد لـ"النهار". لكن ذلك لا يعني ان جميع الاسر الاقطاعية القديمة تلجأ الى هذا السلوك، بل ان المسألة تختلف باختلاف العادات والتقاليد المتبعة في العائلة نفسها.

 اما الكوفية العربية، الحاضر الابرز في مهرجان المختارة، فهي رمز فلسطين المجاهدة والشهيدة، وتالياً رمز العروبة، وفق ما يقول الصحافي عزت صافي لـ"النهار"، قارئاً مشهد التسليم تكليفاً لتيمور خدمة الناس والدفاع عن حقوقهم، بمثابة اقتسامٍ للدور التمثيلي، اذ انها من المرات النادرة التي نشهد فيها ثنائيةً منظمة في دار المختارة التي عمل اهلها في القيادة والشهادة، وعادةً ما كان زعيم دار المختارة يولد في لحظة استشهاد السلف. وعندما قتل فؤاد بك، والد كمال جنبلاط، لم تذهب وجاهة الدار الى احد، بل صانتها الست نظيرة التي واجهت واقع وفاة زوجها وكانت على قدرٍ من المسؤولية التي فرضتها الظروف عليها، وكبّرت كمال، فانطلق زعيماً وطنياً. "سيتحمل تيمور جنبلاط مهمة خدمة الرأي العام اللبناني ويتولى مهماته النيابية ممثلاً عن الشعب اللبناني، وتبقى العباءة ملقاة على كتفي رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، مما يشكل ثنائيةً في خدمة الشعب والوطن والناس"، يقول صافي. ويصنف الكوفية شعاراً للحزب التقدمي الاشتراكي الذي اسسه كمال جنبلاط بعد ان برز نائباً عن جبل لبنان، مؤكداً انتماء لبنان وموقعه العربي، والكوفية تالياً هي رمز عروبة لبنان.

لمحة تاريخية
يعود مراد بنا الى تاريخ بيت جنبلاط الحافل بالدم، منذ اعدام بشير جنبلاط. ذلك ان لدى الموحدين الدروز عقيدة وطنية تحضهم على الثبات في ارضهم، والتضحية بأنفسهم للدفاع عن ارضهم، وفق ما يقول، وعلى رأسهم هذه العائلة العريقة. وكان كمال يعي انه سيموت، كما كان وليد معرضاً للموت، ولا يزال، ولم ولن يخف، مما يعني ان ما ربط بيت جنبلاط بالارض هو الاستشهاد في سبيلها. وفي شهادة مراد هنا، تلاقٍ مع شهادة صافي، على ان بيت جنبلاط عائلة عملت في القيادة والشهادة. والدلالة الكبرى على ذلك خطاب وليد جنبلاط ، المستوحى من التاريخ، وظهر الامر جلياً عندما تكلم عن الموت واوصى تيمور بالاستمرار والاستعداد للتضحية: "ادفنوا امواتكم وانهضوا".

تاريخياً، ضعف نفوذ آل جنبلاط في المرحلة الممتدة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. حصل ذلك بعد اعدام بشير جنبلاط اثر الخلاف الذي نشب بين البشيرين (الجنبلاطي والشهابي)، رغم حلفهما السابق. لكن الزعامة الشهابية كانت تريد تكريس نفسها في الشوف، و"راسين كبار"، وفق ما يصفهما مراد مستخدماً مفردات جبلية عامية، لم يتمكنا من الاتفاق على حكم الجبل. ويضيف انه في نهاية القرن التاسع عشر، ضعف نفوذ بيت جنبلاط ايضاً، ولكن زعامتهم بقيت متّقدة. ويعود السبب الى الموت المبكر لأحد زعمائهم وهو سعيد جنبلاط.

وما يؤكد الصلابة التي كان يتمتع بها ابناء جبل لبنان وعلى رأسهم بيت جنبلاط، التحدي الذي خاضوه في وجه الدولة العثمانية التي قبلت استقلاليتهم على مضض. ورغم ان العثمانيين عاونوا الموحدين الدروز في بعض المراحل التاريخية لخدمة مصالحهم الشخصية، إلاّ أنهم منذ بداية القرن السادس عشر، أضمروا لهم مشاعر الغبن والكراهية وعلى رأسهم الامير فخر الدين، الزعيم الدرزي اللبناني ووالده قرقماز من قبله. ذلك ان الدروز يحبذون الاستقلالية منذ تأسيسهم وحتى اليوم، وفق مراد، ويتمتعون بالشهامة، و"راسن كبير" ولا يحبون التدخلات الخارجية. وارادت السلطنة العثمانية منذ زمن وضع يدها على مناطق وجودهم ونفوذهم في جبل الدروز وجبل عامل والشوف، لكنها لم تفلح. "الدروز يتقربون من الآخر، لكنهم لا يخضعون لسلطته"، يسرد مراد استناداً للوقائع التاريخية. واذا ما عدنا بالزمن الى عهد المماليك، فنجد ان الدروز ايضاً كانوا يتمتعون بالحكم الذاتي، وهذا ما قبل به العثمانيون على مضض بعد ان شنوا عليهم حروباً عديدة، وعلقوا لهم المشانق