سركيس نعوم
سماحة مفتي الجمهوريّة الشيخ عبد اللطيف دريان معروف باتّزانه وحكمته ورجاحة عقله واعتداله، وإيمانه بأن الإسلام الحق هو إسلام الوسطيّة والعيش المشترك والاعتراف بالآخر، وبرفضه للتطرّف في القول والممارسة ولفكرة الالغاء ولاعتماد العنف والتطرّف والتكفير لتصحيح وضع وإزالة ظلم، وباقتناعه بأن الحوار هو السبيل الوحيد لحل المشكلات بين اللبنانيّين.


والكلمة المدروسة جيّداً التي ألقاها مساء أول من أمس في مسجد محمد الأمين في حضور رئيس الحكومة سعد الحريري وأقرانه من الرؤساء السابقين تؤكّد كل الصفات المذكورة أعلاه. ولعلّ تركيزه أكثر من مرّة على وحدة صف اللبنانيّين وتلافيه استعمال الأوصاف التي تعبّر عن اصطفافاتهم الطائفيّة والمذهبيّة دليل إضافي على سعيه إلى إعادة اللحمة إليهم.


طبعاً أكّد سماحته أن اللبنانيّين ليسوا شعوباً بل شعب واحد. وأنا مقتنع بأنّهم كذلك. لكن مهمّته وأقرانه من رجال الدين في كل الأديان هي إقناع هؤلاء فعلاً بأن تنوّعهم لا يلغي وحدتهم كشعب. وما إشارة الرئيس الحريري بعده إلى ضرورة الحفاظ على وحدة الطائفة، طبعاً بعدما شدّد على وحدة اللبنانيّين، إلّا دليل على تشرذم حوّل التنوّع المُغني للبلاد انقسامات مدمّرة لها. وما تحذير سماحته المتظاهرين يوم الأحد الماضي من مس مقام رئاسة الحكومة إلّا دليل آخر. وطبعاً أيضاً يعرف سماحته أن ذلك جعل الطوائف والمذاهب والأديان تعتبر نفسها أُمماً في لبنان أي شعوباً، ودفعها كلّها إلى اعتبار أن الدولة القائمة على هزالها وحتى قبل هذا الهزال ليست دولتها. ولذلك حلّل أبناؤها وزعماؤها وقادتها إضعافها وسيطر كل منهم على ما تمكّنه قوّته العدّدية أو التسليحيّة أو السياسيّة أو عصبيّته الدينيّة من إدارتها ووزاراتها. وهذه عمليّة مستمرّة. وبدأوا عملية هدمها رغم إدعائهم بناءها، والاستيلاء على مواردها وأموالها، ورفض تنفيذ قوانينها والتقيّد بأحكام دستورها الذين يزعمون أنهم اتفقوا عليه عام 1989 في الطائف. والزعم ليس تأكيداً للصحة. وبذلك استوى الحاكمون والمحكومون في تدمير الدولة ومؤسّساتها. ولهذا فإن الشعارات الشائعة التي يستعملها أبناء "الشعوب" اللبنانيّة ومنها أن مسؤولية ما حصل على الحكّام والزعماء صحيحة ولكن بنسبة 50 في المئة فقط. ولن تكتمل هذه النسبة إلّا عندما يعترفون بمسؤوليّتهم هم أيضاً عنه. علماً أن الذهاب أبعد بالقول أن شعب لبنان الواحد نظريّاً والمنقسم شعوباً عملياً يكون أحياناً أسوأ من حكّامه وقادته وزعمائه قد لا يكون ظالماً له أو لها.


فالإصلاح الضريبي وهو الأمر الملحّ اليوم كان مطلوباً قبل الـ 1975 أيام وجود دولة وإن بالحد الأدنى، ولم يتحقّق رغم المطالبات. وهو مطلوب اليوم وقد لا تتحقّق منه إلّا بضعة أمور لا عن إقتناع بل بسبب الخوف من الناس. وتجربة التحرّك الشعبي عام 2015 تشاركت شعوب الطوائف والمذاهب وقادتها والحكّام في إفشالها، إذ لم تصمد أمام شعارات "كلُّن يعني كلُّن"، وأمام التنافس بين أقطابها الشباب على الزعامة والوجاهة، وأمام قرار "الجهات الأقوى" بمنع ولادتها. والتجربة الثانية قبل أيام نجحت جزئيّاً ليس بسبب عدد المشاركين فيها مع الاحترام لهم، ولكن بسبب شعور "أصحاب القرار" في البلاد وأقواهم أن "السيل بلغ الزبى"، وأن استهتارهم كلّهم بالناس سيتسبّب ليس بثورة فعليّة لاستحالة ذلك في لبنان جرّاء غلبة العصبيّات الطائفية والمذهبية والدينية والمناطقية والقبليّة على العصبيّة الوطنيّة، وليس بانقلاب عسكري لاستحالته ولأن الانقلاب في العالم لم يكن يوماً ثورة بل أمناً مفروضاً بالقوّة وجمهوراً شعبياً عريضاً مؤيّداً بالقوّة والاغراءات والامتيازات، بل بحرب أهليّة جديدة. فالذين يعتبرون شعب لبنان واحداً وكذلك دولته لا يذهبون إلى "الارثوذكسي". والذين يعتبرون ذلك أيضاً لا يسعون إلى "حلف أقليات"، ولا يسعون في الوقت نفسه إلى احتضان الفئات الراديكالية الدينية في كل الطوائف.


في اختصار أن الذي يطالب بعدالة ضريبية عليه أن يعرف استحالتها في بلد مضطرب ومنقسم ومستعدّ دائماً للحروب والنزاعات. والذي يطالب بعدالة ضريبيّة وباصلاحات تحمي الناس وخصوصاً الفقراء عليه أن يعرف أن الاسترهان للخارج مسيحي وغربي ومسلم عربي وغير عربي شرقي آسيوي وحتى اسرائيلي، والاستفادة من أمواله يحقّق بحبوبة موقّتة تزول فور تحقيقه أهدافه أو فور انشغاله باهتمامات أخرى مصيريّة. كما عليه أن يعرف أن الاسترهان الذي يعتبره لبنانيون تحالفاً مستحيل بين كبير قوي وصغير ضعيف، فضلاً عن أنه يدمّر الدولة. ودولتنا الآن دليل حسّي على ذلك.