يحذر الخبراء من أن الأزمات المتكررة للاتحاد الأوروبي تشكل تهديدا “وجوديا” له لأنه لا يزال يعتمد مثل السلام إطارا أساسيا لعمله، وذلك بينما يخوض انفصالا غير مسبوق مع بريطانيا ويحاول النهوض من جديد.

قال رئيس البرلمان الأوروبي انتونيو تاجاني عشية الاحتفال في روما بالذكرى الستين للمعاهدة المؤسسة لهذا التكتل إن “المشروع الأوروبي لم يبد يوما بعيدا عن الشعب كما هو اليوم”.

و2017 هي سنة كل المخاطر إذ سيكون على الاتحاد التفاوض حول انفصال لندن عنه والحد من صعود الأحزاب المعادية للأجانب والمشككة في جدوى الوحدة الأوروبية والتي تأمل في إحراز تقدم في الانتخابات المقبلة في فرنسا وألمانيا.

رفع القادة والموظفون الأوروبيون لفترة طويلة شعار جان مونيه، أحد مؤسسي الاتحاد، الذي يؤكد أن “أوروبا ستصنع في الأزمات وستكون خلاصة الحلول التي تقدم لهذه الأزمات”. لكن أحدا لا يجرؤ اليوم في بروكسل على توقع أي شيء من هذا.

ستون عاما من التقدم والأزمات

باريس – المحطات الكبرى في ستين عاما من البنية الأوروبية:

* في التاسع من مايو 1950، وضع وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان أول حجر في البناء الأوروبي عندما اقترح على ألمانيا بعد خمس سنوات فقط على استسلامها في الحرب العالمية الثانية، تحقيق تكامل في الإنتاج الفرنسي الألماني للفحم والفولاذ في إطار منظمة مفتوحة لكل دول أوروبا.

* وقعت اتفاقية باريس التي نصت على إنشاء “مجموعة الفحم والفولاذ” بعد عام واحد في 18 أبريل 1951، وولدت بذلك أوروبا “الدول الست” (ألمانيا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا).

* في 25 مارس 1957، وقعت الدول الست المعاهدة التأسيسية لأوروبا السياسية والاقتصادية. وقد أسست المجموعة الاقتصادية الأوروبية السوق المشتركة القائمة على التنقل الحر مع إلغاء الحواجز الجمركية بين الدول الأعضاء.

* في يناير 1973، انضمت بريطانيا والدنمارك وأيرلندا إلى السوق الأوروبية، تلتها اليونان (1981) وإسبانيا والبرتغال (1986) والنمسا وفنلندا والسويد (1995).

* توقيع معاهدة ماستريخت في فبراير 1992، وهي تنص على الانتقال إلى عملة واحدة وإنشاء اتحاد أوروبي.

* في الأول من يناير 2002 دخل اليورو إلى الحياة اليومية لنحو 300 مليون أوروبي. اختارت الدنمارك وبريطانيا والسويد فقط الإبقاء على عملاتها الوطنية.

* انضمت عشر دول جديدة إلى الاتحاد الأوروبي في مايو 2004 هي بولندا والجمهورية التشيكية والمجر وسلوفاكيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وسلوفينيا ومالطا وقبرص. وفي 2007 انضمت بلغاريا ورومانيا إلى الاتحاد ثم كرواتيا في 2013.

* في ربيع 2005 توقيع اتفاقية لشبونة التي كان يفترض أن تسمح بعمل مؤسسات أوروبا الموسعة بشكل أفضل وتمت المصادقة عليها بصعوبة في 2009.

* منذ سنة 2015 تواجه أوروبا أخطر أزمة هجرة منذ 1945 مع وصول مئات الآلاف من المرشحين للهجرة، وأخفق الاتحاد الأوروبي في وضع خطة عمل مشتركة.

* في يونيو 2016 وجهت أزمة بريكست ضربة إلى اتحاد أضعفه صعود الشعبوية والتشكيك في جدوى الوحدة الأوروبية.

يرى شتيفان ليني الباحث في المركز الفكري “كارنيغي يوروب” أن “ما تغير هو أننا لا نواجه أزمة واحدة كبرى بل مجموعة أزمات خطيرة جدا ومعقدة”. وأضاف “لم نعد نضمن أن يخرج الاتحاد الأوروبي من هذه الأزمات في 2017 و2018”.

وقال ليني الدبلوماسي النمساوي السابق إن الاتحاد الأوروبي سينجو، على الأقل كسوق واحدة، بفضل “الأسس الاقتصادية المنطقية التي يقوم عليها”، لكنه أقر بأنه يفكر في بعض الأحيان “بالإمبراطورية الجرمانية التي استمرت قرونا قبل أن تموت سياسيا”.

ويذكر فريديريك المان الباحث في الدراسات الأوروبية في جامعة لوكسمبورغ بأزمات أخرى من سياسة المقعد الفارغ التي اتبعها الجنرال ديغول في 1965-1966 إلى الانضمام المتأخر للمملكة المتحدة في سبعينات القرن الماضي على خلفية الصدمة النفطية والأزمة النقدية.

وقال “لكن الأزمات التي نواجهها اليوم تمس بالمعنى العميق للمشروع الأوروبي”. وأضاف “بالتأكيد ما زال السلام هو الإطار الرئيسي لكن بمعزل عن ذلك، أي نموذج اقتصادي واجتماعي نريد في أوروبا”.

ومنذ عقد لم تشهد هذه “الفكرة الجميلة” التي ولدت على أنقاض الحرب العالمية الثانية هدوءا؛ فالبطالة ما زالت مرتفعة في الاتحاد، والنمو بطيء نتيجة الأزمة المالية في 2007 و2008 ثم أزمات ديون دول الجنوب التي تصدت لها المفوضية الأوروبية بوسائل تقشفية أثارت نقمة شعبية، وفي 2015 كادت اليونان تخرج من منطقة اليورو.

لم ينجح الأوروبيون في وقف المأساة السورية ولا النزاع في أوكرانيا الذي يسبب توترا شديدا مع روسيا فلاديمير بوتين. في كل مكان غيرت الاعتداءات الجهادية جذريا البيئة الأمنية، وعمق الشروخ وصول 1.4 مليون مهاجر في 2015 و2016.

وأقر رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر بالحالة المتردية التي بات عليها الاتحاد الأوروبي، حين قال “لم أر مثل هذا التشرذم ومثل هذا التراجع في التوافق في اتحادنا”، واعتبر أن أوروبا تمر “بأزمة وجودية”.

في هذه الأجواء يمكن أن تعطي المفاوضات حول خروج بريطانيا التي يفترض أن تفتتح في مايو الانطباع بأن الاتحاد الأوروبي بات على شفير الهاوية. لكن الخبراء يؤكدون أن الآفاق يمكن أن تتحسن إذا أفرزت الانتخابات الفرنسية في الربيع والألمانية في سبتمبر قادة قادرين على إنعاش المشروع الأوروبي من جديد. وما لم يتحقق ذلك قد يتم تفعيل “أوروبا بسرعات متفاوتة” حيث تسير الدول التي ترغب في ذلك في مجموعات صغيرة قدما حول مسائل مثل اليورو والدفاع، وهذا بات أولوية في مواجهة خطر انطفاء الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب.

ورأى الخبير السياسي في جامعة غاند هندريك فوس أنه سيكون من الصعب تحقيق قفزة كبرى لكن العودة إلى الوراء مستبعدة. وقال إن “قادة جميع الدول الأعضاء يدركون جيدا أن ما بني في السنوات الستين الأخيرة بدءا من السوق الواحدة وشينغن وصولا إلى منطقة اليورو أتاح مستوى المعيشة المرتفع الذي نشهده في أوروبا اليوم”.

وشدد ايان بيغ، الأستاذ في جامعة لندن “سكول اوف ايكونوميكس”، على ضرورة كسب تأييد الرأي العام مجددا الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تراجعه. وقال محذرا إن أوروبا بددت حتى الآن الكثير من “رأسمالها السياسي” و”إذا تدهورت كثيرا فقد تصل إلى نقطة تشكل النهاية فعلا”.