سركيس نعوم

الأزمات في لبنان لا تنتهي. وفي هذه المرحلة تحتدم أربع أزمات مهمّة، ثلاث مُتلازمة هي إصدار موازنة عامة بعد إثني عشر عاماً من الصرف على القاعدة الاثني عشريّة، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب، وإيجاد موارد لها بضرائب ورسوم. أمّا الأزمة الرابعة فهي وضع قانون انتخاب يُنتج مجلساً جديداً بعد تمديد للمجلس الحالي ولاية كاملة أحبط الناس بل دفعهم إلى اليأس. طبعاً لن يتناول "الموقف" اليوم إلّا موضوع الضرائب لأهميّته، وبصراحة وصدق متناهيَيْن غائبَيْن عموماً عن مواقف "الشعوب" اللبنانيّة وقادتها وحكّام البلاد والديكتاتوريّات "القابضة" (مثل الشركات القابضة) على الطوائف والمذاهب. ما يُقال أولاً في هذا الشأن إن اللبنانيّين بغالبيّتهم لا يحبّون دفع الضرائب. وقد تشاركهم ذلك شعوب متقدّمة، لكنّها تدفعها بطيب خاطر لأن من دونها ما كان في إمكان حكوماتها أن تقيم "دولة الرفاه الاجتماعي" والبُنى التحتيّة على تنوّعها والماء والطبابة والعلم و... أمّا لماذا ترفض غالبيّتنا دفعها فلأسباب ثلاثة. الأول يقوله علناً الفقراء وأصحاب الدخل المحدود والطبقة الوسطى المستمرّة في التقلّص دوراً وعدداً، علماً أنها أساس ازدهار أي مجتمع وأي دولة، وهو أن دولتنا العظيمة لا تقدّم لهم في مقابل الضرائب كل الذي تقدّمه الدول المتقدّمة وحتى الدول التي تنتمي إلى العالم الثالث المُتخلّف عموماً. والثاني انعدام ثقة هؤلاء بنزاهة المسؤولين بل الطبقة السياسيّة بمعظمها، وتعاظم الشكوك في أن الضرائب التي يدفعون تذهب إلى "الجيوب" جرّاء الفساد المُستشري في الدولة ومؤسّساتها وفي القطاع الخاص وحتى عند الناس العاديّين. أما السبب الثالث فهو حرص "المجتمع الاقتصادي – الأعمالي – المصرفي" العريق والمجتمع الطفيلي الذي أنشأه على ضفافه "الأثرياء الجُدد"، ومنهم "أثرياء الحرب" وأثرياء الصفقات وتبييض الأموال والمافيات ومعهما الطبقة السياسيّة القديمة والجديدة المختلفتيْن على الكثير والمتّفقتيْن على تأمين "الحماية" في مقابل مكاسب، فهو حرص هؤلاء كلّهم على تكديس ما فوق المسموح به قانوناً وأخلاقاً وديناً في الأرباح على حساب الشعب. وهو أيضاً تكيّف الفقراء وأصحاب الدخل المحدود وما تبقّى من الطبقة الوسطى مع هذا الواقع فصار قسمٌ كبيرٌ منهم شريكاً أو مُساهماً في إنجازاته الوطنيّة. وصار الفساد ومنه التهرّب من الضرائب عادة. والعادة طبيعة ثانية كما يُقال. ولعلّ مُسارعة عدد لا بأس به من حَمَلة جنسيّة الولايات المتحدة من اللبنانيّين إلى التخلّي عنها، بعد إصدارها قانون "فاتكا" الذي يُفرض على ممتلكاتهم وأموالهم وأرباحهم داخل أميركا وخارجها، دليل حسّي على ذلك. فهم أرادوا الخدمات والأمن والتقديمات المتنوّعة من أميركا معتبرينها قادرة على توفير ذلك من دون ضرائب، وأرادوا من لبنان و"الجنّات الضريبية" في العالم مضاعفة أرباحهم والثروات. علماً أنهم نسوا أن "جنّة" كهذه مستحيلة من دون دولة مستقلّة ودولة قانون ودولة شعب واحد لا شعوب، لا دولة "حارات كل من إيدو إلو".
في نهاية هذا "الموقف" لا بدّ من الإشارة إلى أن الزميل إبراهيم الأمين كان موفّقاً ليلاً قبل يومين على الـ OTV مع الزميل جان عزيز. فصراحته تجاه رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون مع المودّة والتقدير المستمرّين له، ودعوته إلى تحقيق آمال الناس ليست جديدة. لكنّه، وقد حضرت نصف "الحلقة"، أصاب كثيراً في موضوعَيْن أولهما التغيير والإصلاح اللذيْن قال عون إنه بطلهما، واللذيْن لم يتحقّق منهما شيء حتى الآن. وثانيهما تركيز تيّاره وقادته ورئيسه الوزير باسيل على "حقوق مسيحيّة" في مجلس النواب والحكومة والإدارة، وعدم إيلاء أهميّة لإصلاح وتغيير يفيدان اللبنانيّين كلّهم. واللافت هنا كانت إشارة الأمين إلى أن "المناصفة" التي يحرص باسيل عليها كثيراً بدأت "تنقّز" المسلمين الأكثر عدداً من المسيحيّين وبكثير، وتحذيره من عودة هؤلاء عنها.
طبعاً هناك أمور كثيرة أختلفُ فيها مع الزميل الأمين. ومنها اقتناعي، يوم بدأ العماد عون عمله السياسي برئاسة حكومة انتقاليّة، وبعد إخراجه منها بالقوّة ونفيه إلى فرنسا، ثم بعد إعداده انقلاباً على نفسه قبل عودته بأشهر أو أسابيع وتنفيذه إيّاه بعد انتخابات الـ 2005، اقتناعي بأنه لم يكن يوماً رجل تغيير وإصلاح ولن يكون. ومنافسوه ليسوا أفضل منه. وإذا كان من أوصله إلى قصر بعبدا حريصاً على التغيير فليفعله شرط أن يكون وطنيّاً ولمصلحة الجميع لا فئويّاً.
- ملاحظة: أحدٌ ما شطب كلمة "زعيمٍ" في السطر الثامن من المقطع الثالث ووضع مكانها كلمة "سماحته". فعذراً.