علي سعد الموسى

وعلى مفرق طريقين، لا أعلم هل أكتب عن لندن أم عن ذئبها الضال خالد مسعود. سأكتب عن المدينة التاريخية بوصفها من سيبقى حين سيذهب كل مجرم إلى مزبلة التاريخ. إنها المدينة الأشهر بين كل مدن الدنيا بوصفها مدينة الجسور. وجسورها الأسطورية لم تكن مجرد لوائح الأسمنت والفولاذ الواصلة ما بين الضفتين،

بل هي كل تلك الجسور المجازية التي رفعتها هذه المدينة إلى ثقافات الكون وأعراقه وأديانه ومذاهبه وكل مدارسه الفكرية المتناقضة. هنا، وفي لندن، كتب كارل ماركس «رأس المال»، وفيها أيضا عاش جون آدامز، رائد تنظير الرأسمالية. في لندن، يقرأ الجميع صحيفة التايمز على قهوة الصباح، وفيها أيضا ينتشر آلاف الباعة في المساء ليوزعوا صحيفة «إيفننج ستاندارد»، كأشهر منبر شيوعي في هذه الدنيا بعد «البرافدا» الروسية. إلى عوالمها المفتوحة نحو حرية الإنسان، هرب نزار قباني ونازك الملائكة، مثلما هي من احتضن الغنوشي وأبا حمزة المصري. في بداية الألفية الجديدة كنت زائرا باحثا بإحدى كلياتها الشهيرة عندما ذهبت مع بعض طلاب الجالية الإسلامية إلى نادي الطلاب بمعروض لتخصيص قاعة لصلاة الجمعة. كنا نظن أن المعروض سيأخذ أشهرا من الدراسة ودرزنا من تواقيع المسؤولين: بعد نصف ساعة فقط وضعوا في أيدينا مفتاح القاعة «الأنجيليكانية» من يد سكرتيرة باسمة وهي تقول: هي لكم على الدوام، فالمسيحيون هنا لم يعودوا يأتون ليصلوا.
لم تكن لندن مجرد براءة الاختراع الأولى في بشائر الثورة الصناعية التي غيرت شكل الحياة البشرية ما قبل قرنين. هي، وفيما هو أهم، والدة اختراع «ركن الحرية» في زاوية الهايد بارك، وفي هذه الأمتار المربعة مر آلاف المثقفين والأمميين، مثلما جاء آلاف الديكتاتوريين والمعارضين من كل فجاج الأرض ليتحدثوا طلقاء أحرارا عن كل شيء وأي شيء. ويؤسفني أن أكتب لكم تعليق ابني الصغير وهو يصف هذا المكان عندما زاره الصيف الماضي: يا أبي لم يعد بهذا المكان إلا العرب، ولم أسمع فيه لغة غير العربية. هي العاصمة الوحيدة في غرب الأرض وشمالها التي لا تشترط أختام مجلس المدينة لبناء مسجد أو معبد أو كنيسة، على أرصفتها تقرأ دون أن تضطر لتشتري كتب هتلر وغيفارا والظواهري وسيد قطب، وللمفارقة أيضا القصيبي والقصيمي وعبدالرحمن منيف. كنت في لندن يوم استقالة امرأة الحديد، تاتشر، وبعد عشر دقائق فقط تمت تسمية جون ميجور خلفا انتقاليا في قصة بالغة السلاسة والبساطة لم ولن تصل إلى منهجها مؤسسة ديمقراطية على وجه هذه الأرض. 
باختصار: لندن هي الإشعاع الطاغي الذي وصل صداه وتأثيره إلى كل المنتج البشري في كل الأصقاع. مهد أول مطبعة ومصنع أول آلة حديثة في الفنون. هي إذاعة كل لغة من ألسنة الأمم يوم كانوا يهربون من تضليل أشباه أحمد سعيد والصحاف في كل أمة إلى: هنا لندن. غدا سأكتب عن خالد مسعود.