الياس حرفوش

مرة جديدة، تذكّر جريمة جسر وستمنستر في لندن، بخطورة الزمن الذي نعيش فيه، وبسهولة تحوّل أي منا إلى ضحية مجانية على رصيف أو في مقهى، لأن إرهابياً أو مجنوناً ما اختار أن ينهي حياته وحياة من شاء حظهم التعيس أن يكونوا في طريقه.

كذلك، تذكّر هذه الجريمة التي ارتكبها خالد مسعود، كم أن الدوافع الدينية يجب أن تبقى بعيدة من شبهة الاتهام عند البحث عن خلفيات لمثل هذه الجرائم. فهذا الرجل هو من أصحاب السوابق في تعاطي المخدرات وارتكاب الجنح، وسبق أن قضى سنوات في السجون، كما كان معروفاً من جانب جهاز الاستخبارات البريطاني، وكل ذلك قبل اعتناقه الإسلام.

الدافع الإجرامي إذاً هو الذي يجب البحث عنه. وهو ما ينطبق على الكثيرين من الذين ارتكبوا مثل هذه الجرائم في الأعوام الماضية. هؤلاء أشخاص منحرفون، يعيشون خارج المجتمع السوي، ويعانون من مشاكل أسرية أو اجتماعية أو شخصية. بالتالي، فإن تحويلهم إلى أصحاب «قضية»، سواء كانت دينية أو سياسية، يخدمهم و «يرفع» مستوى الجرائم التي يرتكبونها. الرجل الذي اعتدى على شرطي في مطار أورلي قبل أسبوعين اكتشفت الشرطة أنه كان يتعاطى الكوكايين. وكذلك سائق الشاحنة التي قتلت العشرات على شاطئ مدينة نيس الفرنسية كان مدمناً الكحول والمخدرات. ومثله بعض الذين ارتكبوا مسلسل التفجيرات الإرهابية في باريس. أين «الالتزام» الديني المزعوم إذاً الذي يقف وراء سلوك هؤلاء المجرمين؟

أما مسارعة تنظيمات إرهابية مثل «داعش» أو سواه إلى استغلال هذه الجرائم وتبنّيها فيدخل في إطار بحثها عما يعزز ويبرر شعارها بأنها «باقية وتتمدد». وهكذا فكلما اتجهت سيارة أو شاحنة نحو أبرياء لقتلهم، كما حصل في نيس وبرلين والآن في لندن، يجد «داعش» فرصة للقول أنه لا يزال موجوداً وأن له أتباعاً من «جنود الخلافة»، من دون أن يكون ضرورياً أو مؤكداً أن التنظيم استطاع الوصول إلى هؤلاء «الجنود» أو بعث بتعليماته إليهم.

كل ما في الأمر أن عقولاً مضطربة داخل رؤوس هؤلاء وحالات نفسية شاذة تصل إلى حد فصام الشخصية هي التي تفسر سلوكهم. وهو ما يعقّد عمل الأجهزة الأمنية ويحول دون الإبلاغ عنهم من جانب من يتعرف إليهم أو يلتقيهم. ما قرأناه مثلاً عن خالد مسعود أنه كان بالغ اللطف مع كل من التقى به في الفندق الذي نزل فيه قبل أن يتوجه إلى لندن لارتكاب ما كان يمكن أن يكون مجزرة على جسر وستمنستر، تحصد عشرات القتلى في طريق مزدحم كهذا، وليس فقط الأربعة الذين قضوا.

في حالات كثيرة سابقة، كان الإرهابيون من مرتكبي هذه الجرائم يبدون أمام من يلتقيهم في اللحظات الأخيرة قبل توجههم إلى حقل الجريمة أشخاصاً عاديين، طيبين، مهذبين، يكاد من يتعرف إليهم يتوسل صداقتهم، ليكتشف بعد ساعات قليلة أن هذا الشخص بالذات هو الذي دهس المارة بسيارته على الرصيف، من غير أن يرفّ له جفن، أو أن يتردد أمام هوية الضحايا. هكذا دهست عجلات خالد مسعود، بين من دهست، عجوزاً في الخامسة والسبعين وسيدة كانت تتجه لاصطحاب أولادها من المدرسة، وتلاميذ كانوا في رحلة دراسية إلى لندن... ومن نجا من الموت فقد نجا لأن هذا المجرم كان فاقداً تركيزه في ساعة الجريمة وليس لأنه كان يفتقر إلى نية القتل.

يزيد من تعقيدات عمل الأجهزة الأمنية أن إرهابيي السنوات الأخيرة أصبحوا مجرمين محليين. فقد تجاوزنا زمن جريمة 11 سبتمبر عندما اضطر أسامة بن لادن إلى «تجنيد» إرهابيين وإرسالهم عبر المطارات للوصول إلى نيويورك. في تفجيرات 7 تموز (يوليو) 2005 في لندن، وقبلها في مدريد عام 2004 وفي الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو» في باريس أو في عملية دهس العشرات على شاطئ نيس، وفي عدد من الهجمات الأخرى، كان مرتكبوها نتاج «صناعة محلية». ما يعني أن مراقبة المطارات والتدقيق في الهويات لم يعد كافياً ولا مجدياً. من الصعب أن تراقب أجهزة الأمن كل من يقود سيارة أو شاحنة للتأكد مما إذا كان ينوي التوجه إلى رصيف ما لقتل السائرين عليه.