خليل علي حيدر

وفاة «مفتي الإرهاب» وأحد كبار شيوخه الدكتور عمر عبدالرحمن في محبسه بالولايات المتحدة من جانب، ونزوح الأقباط المصريين من «العريش» بعد تهديدهم بالقتل من قبل تنظيم ولاية سيناء الموالي لـ «داعش» من جانب آخر، سلّطا الأضواء من جديد على مراجعات «الجماعة الإسلامية» في مصر، خاصة أن الجماعة انتقدت العنف ضد الأقباط.

كان انتشار جماعة «الإخوان المسلمين» في المجتمع المصري بعد عام 1928، ونمو أفرعها في دول عربية عديدة كما ذكرنا في مقال سابق، من أبرز أسباب زرع العداوة للأقباط وتحذير المسلمين عموماً من «خطر النصارى». ولم تفلح جهود حتى «الضباط الأحرار» بعد استيلائهم على الحكم والاصطدام بـ «الإخوان» عام 1954، في إزالة الحساسيات المختلفة ضد الأقباط.

وما أن حل عهد الرئيسين السادات ومبارك في مصر، حتى التهب الجمر من تحت الرماد مع تصاعد جماعات العنف مثل «الجماعة الإسلامية» و«الجهاد»، وبداية مرحلة جديدة بالغة العنف استهدفت علناً حياة ومؤسسات ومصالح الأقباط.

لم تكن سياسات «الإخوان المسلمين» العلنية ومراحل الصراع مع السلطة مبعث العداء للأقباط، كما يؤكد مؤرخو الجماعة. ويقول الدكتور زكريا بيومي إن مرشد الجماعة حسن البنا «كان يدرك أن تطرف بعض الأقباط في مهاجمة الفكر الإسلامي، لا يعبر عن رأي مجموع الأقباط في مصر، كما كان يخشى عودة الفتنة الطائفية التي لا يستفيد منها إلا الاحتلال».

غير أن تأسيس حركة سياسية بحجم «الإخوان» قائمة على تسييس الدين وأدلجته، أطلق في مصر وخارجها شرارة هائلة ضد المسيحيين خاصة.. ولا تزال! وسرعان ما دخلت ميادين المزايدة جماعات أخرى.

وبعد مرحلة دامية من العنف والقتل والتفجير والإرهاب، أعلنت «الجماعة الإسلامية» مبادرتها ومراجعتها لأفكارها وسياساتها، في محاولات عدة، كان آخرها عام 1997، وقد أيدها المرشد الروحي للجماعة الدكتور عمر عبدالرحمن في سجنه بنيويورك، ودعا إلى التجاوب معها. وترفض الجماعة تسميتها «توبة»، وتصر على أنها «رؤية شرعية تصحح المفاهيم، وتحث على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة».

ورفض كرم زهدي، أشهر دعاة ومؤسسي الجماعة، وزوج شقيقة الدكتور عمر عبدالرحمن، أن تكون المبادرة تكتيكية أو مؤقتة. وقال لمجلة «المصور» عام 2002، إنها «رؤية استراتيجية وصلح دائم».

ويلخص الدكتور جهاد عودة، أستاذ العلوم السياسية، مضمون هذه المراجعات في ست نقاط، أولاها سقوط مبدأ الحاكمية، إذ «تؤكد الجماعة أن الخروج على الحكام وتكفيرهم، كان سبباً في تقليص الإسلام، فقتال الجماعات الإسلامية للحكومات من أعظم الأسباب لتدخّل الدول الكبرى في شؤون المسلمين، والخروج على الحكام يحمل من المفاسد أضعاف ما يتوهم من مصالح».

والنقطة الثانية العدول عن الموقف من البرلمان والأحزاب، حيث كانت الجماعة قد حرّمت في السابق دخول البرلمان والانضمام إلى الأحزاب السياسية، وقامت باغتيال الدكتور رفعت محجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق، وعادت الجماعة، فأقرت بعدم بدعية الأحزاب. بل اكتشفت الجماعة الأصول الأندلسية للديمقراطية!

يقول الدكتور عودة: «كانت الجماعة ترفض الديموقراطية، نتيجة الحروب الطويلة بين الإسلام والغرب، ما أوجد توجساً من كل ما يأتي من الغرب، لكنها عادت في مراجعاتها لتؤكد أن هناك حقوقاً مرتبطة بالديموقراطية، كحق العمل، وحق الانتقال، وحق التعليم، وأن الحقوق السياسية نشأت في حضن الإسلام، وتسربت عبر الأندلس إلى الغرب».

ومن المبادئ التي أعادت الجماعة النظر فيها «مبدأ الحسبة»، حيث رأت قصرها على أجهزة الدولة الرسمية. وفي حال غياب المسؤول «يجوز للمسلم أن يمنع المنكر بالنصيحة والزجر، من دون أن يعطي لنفسه حق العقاب».

وقالت الجماعة في مراجعاتها كذلك إن «الجهاد وسيلة وليس غاية»، وأكدت «أن القتل ليس مقصوداً لذاته، بل مفسدة حتى ولو كان قتلاً لكافر»، وأن الأصل في التعامل مع المجتمع هو «الهداية والدعوة».

وانتقدت المراجعات ما أسمته «الغلو في الدين»، وقالت إن أهم مظاهر الغلو «الاتجاه الظاهري في فهم النصوص والإسراف في التحريم بغير دليل، وعدم التعلم على أيدي العلماء، وضعف البصيرة بالواقع والحياة والتاريخ وسنن الكون». أي أن هذه المراجعات استجابت في الواقع لمعظم الانتقادات التي كانت توجه للجماعة الإسلامية وغيرها.. ولا تزال!

ومن نقاط هذه المراجعات البارزة أيضاً، الموقف من الأقباط. وتدرس ورقة الباحثة المصرية صباح أحمد فرج في الكتاب نفسه «رائحة البارود»، مركز «المسبار» 2011، موقف «الجماعة الإسلامية» من «المسألة القبطية». وتقول ورقة الباحثة إن الأجنحة المسلحة في الجماعة كانت: «تقوم بالضرب المبرح للأقباط، نتيجة أدنى مشكلة بين مسلم ومسيحي، بغض النظر عمن يكون مخطئاً، وإنْ ألحقوا الخطأ غالباً بالمسيحي، حتى إنه في إحدى المرات قتلوا سبعة عشر مسيحياً ثأراً لمقتل مسلم واحد، فيما عرف بمذبحة ديروط في محافظة أسيوط في التاسع عشر من يونيو سنة 1992، وهو ما انتقل بصورة مكثفة لمحافظة المنيا بصعيد مصر، منذ منتصف عام 1994».

وقد اتسم موقف الجماعة من الأقباط قبل المراجعات وأثناء مرحلة العنف بالاستهداف والتوجس منهم، ولم تعتبرهم حتى «أهل ذمة»، وإنما تعاملت معهم من خلال مفهوم «الولاء والبراء»، المبني على مفهوم دار الإسلام ودار الكفر. وفي هذا السياق كانت «الجماعة الإسلامية» وتنظيم «الجهاد» يروجان أنه «لا يصح شرعاً قبول الأقباط في مجتمع مسلم إلا بشرط الجزية، وأن يعطوها عن يد وهم صاغرون».

وقد اختلف تعاطي الجماعة مع المسألة القبطية بعد المراجعات، حتى بلغ حد إسقاط الجزية عنهم، والتأكيد على مفهوم الوطن والمواطنة، يقول الدكتور ناجح إبراهيم، وهو أحد قادة الجماعة: «بالنسبة للأقباط، فعندنا مبدأ أساسي في التعامل معهم، وهو أننا لا نرى أنهم محاربون، بل هم من نسيج الوطن، ونحن مع الحقوق التي يتمتع بها المسيحيون في مصر ولسنا ضدها». بعد خراب البصرة!

ولكن هل «الجماعة الإسلامية» وحتى «الإخوان المسلمون» يعتبرون الأقباط «مواطنين مصريين» قولاً واحداً دون لف ودوران، ودون شروط مكتوبة بخطوط صغيرة غير مرئية.. كما في بعض الإعلانات؟!

الباحثة المصرية تنفي هذا، ويرى أيضاً الباحث القبطي «مجدي خليل»، أن الاجتهادات التي تستلهمها «الجماعة الإسلامية» في مرحلتها الجديدة، إنما تأتي «متلاعبة بالألفاظ، تصب مضامينها تجاه مفهوم مشوّه للمواطنة». مفهوم يعتبر الدين بديلاً للوطن، ووطن المسلم عقيدته، كما يقول سيد قطب!

و«مراجعات» الجماعة، كما هو متوقع، لم تصل إلى «المنابع»، بل اكتفت فيما يبدو ب«دَكْوَرَة» المصب. ولهذا سرعان ما عادت «الدماء» إلى بعض عروقها! وقد جاء في صحيفة «الحياة»، 11-03-2017، أن السلطات المصرية اتهمت قيادات في «الجماعة الإسلامية» بالسعي لإحياء نشاط الجماعة المُسلَح، والتخطيط لتنفيذ هجمات إرهابية تستهدف قوات الأمن.

واتهمت السلطات الأمنية 18 شخصاً، بينهم 3 من قيادات الجماعة في محافظة المنوفية في الدلتا، و11 عضواً في الجماعة، و4 من أصحاب السوابق الجنائية، بـ«إنشاء تنظيم سري يتخذ من أفكار تنظيم الجماعة الإسلامية الذي يبرر أعمال العنف والإرهاب، أيديولوجية له».

وأوضحت أن التنظيم يتزعمه قيادي في «الجماعة الإسلامية» في المنوفية يُدعى إبراهيم على السيد (فار)، وهو محامٍ. وموقوف على ذمة القضية 6 متهمين، والباقون فارون.