حسام عيتاني

يصح وصف مسار المظالم القومية بالطريق اللولبي الذي يقود دائماً إلى مذنب يحاول سرقة أرض وتراث وهوية الضحية التي كانت في وقت سابق مذنبة بحق ضحية ثانية.

ترتفع اليوم أصوات السوريين العرب في مناطق الجزيرة والشمال حيال تمدد القوات الكردية التي تحاول استغلال حالة الضعف العامة لخصومها في تركيا ولتحالفها الموضوعي مع النظام السوري ومع الأميركيين والإيرانيين في آن واحد، لتحقيق أكبر المكاسب الإقليمية قبل حلول موعد التسوية السياسية.

الأكراد في سورية، يحملون ذاكرة مُرّة تجاه «الحزام العربي» الذي أقامه حكم البعث وحرمان مئات الآلاف منهم من الجنسية السورية وسعي دمشق إلى تحطيم هويتهم ولغتهم وثقافتهم. والشكوى الكردية تنطوي على اتهامات بالعنصرية تشمل المعارضة التي تجاهلت انتفاضة 2004 الكردية كما الموالاة التي لم تتوقف عن الاستغلال الأداتي للقضية الكردية وخيانتها، دورياً، وفق تبدل الظروف والمصالح.

الظلامتان العربية والكردية، تكادان تتطابقان مع ظلامات قومية ووطنية أخرى في هذا الجزء من العالم: السنّة ضد التمدد الشيعي المدعوم من إيران. الشيعة ضد قرون من الاضطهاد السنّي. الخوف المسيحي من الذوبان في بحر المسلمين. وقبل هؤلاء لم تكن ساحة الاحتجاج خالية: لم تنته بعد قضية الإبادة التركية للأرمن ولا طرد الإسرائيليين للفلسطينيين، ولا تهجير الأتراك لليونانيين وهؤلاء للناطقين بالتركية في البلقان. 

سلسلة لا تنتهي من المظلوميات المؤسسة لوعي قومي هوياتي جريح يسعى الى الثأر مسلحا بخرائط عن كيانات «كبرى» امتدت في زمن وهمي على مساحات شاسعة من الارض. بل ان شعارات مدهشة ترتفع وتسمي اماكن بأسماء لم يسمع بها أهالي تلك المناطق وتطرح مهمات تكاد من هولها «تذهل كلّ مرضعة عما ارضعت» على غرار «فتح روما»، الشعار الذي يردده «الدواعش» كبداهة (في حين أن أصل الشعار لا يتجاوز المرحلة التي أعقبت فتح القسطنطينية على يد محمد الثاني «الفاتح» ثم كرسه سليمان القانوني في محاولته لبناء امبراطورية عثمانية -إسلامية عالمية).

والخرائط ذات الكيانات التاريخية المتضخمة كتضخم أوهام راسميها ومروّجيها، ليست حكراً على جهة بعينها. فليس نادراً أن نرى خريطة «دولة الخلافة الداعشية» تغطي القارات الثلاث، الآسيوية والأوروبية والأفريقية، وهو ما يتكرر بنسب أكثر تواضعاً مع الدول الكردية والأرمنية والقومية السورية بل حتى مع أنصار «عملقة» لبنان و «فينقته» ليتسع إلى ما بين الاسكندرون وإنطاكيا شمالاً ونابلس جنوباً.

غالباً ما ترمي القوى العالمية هذه الخرائط في سلال المهملات ولا تعيرها اهتماماً إلا عند تقاطعها مع مصالح آنية سرعان ما تزول تحت وطأة «سياسة الواقع» مخلفة الخيبة والخسارة عند من راهن على استمالة جبابرة الخارج.

ويحتفظ السياسيون بأيديولوجيات التوسع الامبراطوري في أيديهم كورقة احتياط على النحو الذي يتذكر فيه الزعماء الأتراك أنسباءهم في آسيا الوسطى وأساطير الرحيل من بوادي تركستان، على سبيل المثال. ويستطيع السياسيون رفع تلك الأيديولوجيات عند الحاجة مع علمهم المسبق بسذاجة دعاتها وطفولية أحلامهم عندما يفرض الواقع وقواه وموازينها الحدود ومناطق النفوذ والكيانات السياسية. عليه، يدعو إلى السأم ذلك التصور المستل من الماضي عن خرائط ترسمها «حقوق» شعوب سادت ثم بادت، على ما تقول خرافات القوميات المنكبة اليوم على تقسيم العالم وفق مهاراتها في تشغيل برنامج «الفوتوشوب».