عبدالله بن بجاد العتيبي

تحدث الرئيس الفلسطيني محمود عباس في القمة العربية التي انعقدت في الأردن الأسبوع الماضي عن فكرة ظلّ يرددها لسنواتٍ وهي دعوة العرب والمسلمين والمسيحيين لزيارة القدس والمسجد الأقصى دعماً للقضية الفلسطينية.

الثابت الأهم في السياسة هو التغيّر، الذي لا يتغير ينقرض أو يموت، ومن هنا يمكن النظر لدعوة الرئيس الفلسطيني على أنها دعوة واقعية وعملية، وأقرب الناس لرصد المصلحة فيها هو الرئيس نفسه والسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني، لأنهم المعنيون بالموضوع أصالة، والأقدر على تلمس الفائدة فيه.

ظلت القضية الفلسطينية قضية مركزية في السياسة العربية لعقودٍ طويلة، وكان للتعامل معها محطاتٌ وتياراتٌ، بدأت قومية ويسارية، ناصرية وبعثية، لعقود ورثتها عنها تيارات الإسلام السياسي، وهي كانت تصرّ دائماً على حلولٍ شمولية ذات شعاراتٍ برّاقة بغض النظر عن واقعيتها.

لقد ذهبت أدراج الرياح أقوالٌ من مثل «رمي إسرائيل في البحر» أو «فلسطين من النهر إلى البحر» أو شبيهاتها، لا لشيء إلا لأنها لم تعد واقعية ولم تعد مطروحة سياسياً، وأصبح التركيز ينصب شيئاً فشيئاً على الحلول الأكثر واقعية وعقلانية وصولاً إلى الواقع اليوم.

تمّ طرح فكرة عربية في زمن الملك عبد العزيز تقضي بخروج الفلسطينيين من وطنهم حتى تشن الدول العربية حرباً لا هوادة فيها لتحرير فلسطين، فرفض الملك عبد العزيز بواقعية تلك الفكرة ورفض المزايدات واقترح بدلاً منها دعم الفلسطينيين بالسلاح وهم في أرضهم ووطنهم.

وقد ظلت السعودية أكبر داعمٍ لفلسطين في كل عهود ملوكها، الملك سعود ودعمه اللامحدود لفلسطين، والملك فيصل وأمنيته الشهيرة بالصلاة في القدس، والملك خالد، ثم الملك فهد الذي أعلن عن «مشروع فهد للسلام» في القمة العربية في مدينة فاس المغربية 1982.

ولئن رفض المزايدون المشروع حينذاك فلقد كان هو أساس المشروع العربي للسلام في مؤتمر مدريد 1991، وكانت محطاتٌ في الطريق إلى الوضع الراهن، معاهدة كامب ديفيد 1978 بين مصر وإسرائيل، معاهدة أوسلو 1993 بين منظمة التحرير وإسرائيل، ومعاهدة وادي عربة 1994 بين الأردن وإسرائيل.

وفي القمة العربية في بيروت 2002 قدّم ولي العهد السعودي آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز مبادرته للسلام، التي تبنّتها الدول العربية، وأصبحت تعرف بالمبادرة العربية للسلام، وهي المطروحة اليوم عربياً كأفضل حلٍ للقضية الفلسطينية، وهي التي ينطلق منها الرئيس عباس في دعوته لزيارة القدس ضمن المشروع العربي.

الموضوعان الرئيسيان في قمة الأردن هما القضية الفلسطينية ورفض تدخلات إيران، ذلك أنهما موضوعان متقابلان، فحين ركزت كل الدول العربية على دعم القضية الفلسطينية، كلٌ بحسبه، فقد ركزت إيران وبالذات نظام ولاية الفقيه على استغلال القضية الفلسطينية أبشع استغلال.

إيرانياً، بحسب هاشمي رفسنجاني، ففي خضم معارضة الخميني لنظام شاه إيران وفي مطلع الستينات كان «يرغب من السنوات الأولى طرح موضوع القضية الفلسطينية» على الرغم من رفض بعض العلماء من أنصاره، ويعلق رفسنجاني بالقول: «هذا الإصرار يبين بوضوحٍ بعد نظر الإمام، وشمولية رؤيته، ورغبته في أن تمتدّ المعركة إلى المنطقة ومن ثمّ إلى العالم».

وظلّ الخميني يستغل القضية الفلسطينية في معركته مع نظام الشاه، وقام رفسنجاني بترجمة كتاب «القضية الفلسطينية» لأكرم زعيتر إلى اللغة الفارسية خدمة لتوجه الخميني، وتحت غطاء القضية الفلسطينية استمرت سياسات إيران التوسعية ضد الدول والشعوب العربية، فإنشاء حزب الله اللبناني الإرهابي تم تحت هذه الذريعة، وإنشاء الميليشيات الإرهابية في العراق واليمن مرّ عبر نفس الطريق، وشق الصف الفلسطيني عبر حركة حماس الإخوانية تمّ برعاية إيرانية صرفة، وهذا مشروع النظام الإيراني.

وهذا التوجه الإيراني توازى مع توجه جماعة الإخوان المسلمين تجاه القضية الفلسطينية، فقد سعت الجماعة منذ عهد مرشدها الأول حسن البنا لاستغلال القضية الفلسطينية في التدريب العسكري الذي تحتاجه وفي جمع الأموال تحت غطاء فلسطين لتمويل أنشطة الجماعة، على الرغم من عدم حاجة القضية حينذاك لا للمتطوعين ولا للأموال من الجماعة، بحسب تصريحات المسؤولين الفلسطينيين وقتها.

واستمرت الجماعة بنفس النهج، استغلال القضية الفلسطينية لخدمة أهداف الجماعة السياسية في كل الدول التي عملوا فيها، ولضرب مشروعية الدول العربية والمسلمة، ولرفعها كشعارٍ يتمّ تحته تمرير توظيف الدين في الشؤون السياسية، وقد ورثت عنها جماعات العنف الديني التي ترى أن «الطريق إلى القدس» يمرّ عبر عواصم العرب المعادية للمشروع الإيراني، كالقاهرة والرياض، أو عبر كابل كما كان يرى الإخواني عبد الله عزّام، وهذا مشروع الإخوان.

الموقف السياسي من زيارة القدس محل نظرٍ لدى الكثير من الدول العربية، وهو موقفٌ سياسي يتغير ويتطور بحسب الظروف والمعطيات، وليس في هذا إشكالٌ، بغض النظر عن التأييد أو الرفض، ولكن المشكلة الحقيقية هي بالتركيز على الموقف من ذلك بمنطقٍ دينيٍ، حلالٌ وحرامٌ، ومعلومٌ أنه موقف اجتهادي خلافي صغير، وما يعظم من شأنه هو توظيفه السياسي من قبل جماعات الإسلام السياسي.

إذن فهو موقفٌ سياسي يختلف تقدير المصلحة تجاهه، وليس موقفاً دينياً تتمّ إدارته عبر الفتاوى والمفتين، ومع كثرة الفتاوى الإخوانية تجاهه وتجاه القضية الفلسطينية فيمكن التذكير بثلاثة فقهاء معتبرين أفتوا تجاه القضية الفلسطينية بما لا يرضي الجماعة وفقهاءها وهم: ابن باز والألباني وعلي جمعة مفتي مصر: الأول أجاز الصلح مع إسرائيل إذا كان فيه مصلحة 1995، والثاني أوجب على الفلسطينيين الهجرة من فلسطين 1993، والثالث زار القدس وأفتى بزيارتها 2012.

مصالح الشعوب والدول لا تقاس بالفتوى بل بالمصلحة، ولا بالخطب بل بالمشاريع السياسية، وتطور الموقف السياسي للدول العربية تجاه القضية الفلسطينية يؤكد أن الشعارات القومية القديمة كالتطبيع أو حرق إسرائيل لم تعد تجدي نفعاً في مشهدٍ سياسي يتطور باستمرارٍ، وأن شعارات المقاومة والممانعة التي ورثتها حركات الإسلام السياسي قد اتضح عوارها.

إذن فهي ثلاثة مشاريع: الأول، المشروع العربي الذي انتهى إلى المبادرة العربية، الثاني، مشروع إيران لاستغلال القضية الفلسطينية لخدمة أهداف إيران السياسية، وهو يلتقي مع مشروع جماعة الإخوان المسلمين على نفس الهدف والغاية، وقد انكشف مشروع إيران في فضيحة «إيران غيت» وانكشف مشروع الإخوان بخطاب مرسي لبيريس بـ«عزيزي وصديقي العظيم».

أخيراً، فالتعامل مع القضايا السياسية في مجالها السياسي يخدم أصحابها، وإقحام الدين في مسائل سياسية معقدة ومتغيرة بطبيعتها يلوّث نقاء الدين ورسالته السامية، والموقف من زيارة القدس مثال معبّر.