أحمد التيهاني 

رأي أول: الحداثي المارق الذي يسعى إلى قطع صلتنا بتراثنا في الثمانينات، هو نفسه العلماني الفاسق الذي يدعو إلى إبعاد الدين عن الحياة، وفصله عن الدولة في التسعينات، وهو نفسه - بعد عام 2000 – الليبرالي الخبيث الذي يستتر بالحقوق والحريات، ليشيع فينا الفواحش والرذائل.


رأي ثان: الصحوي المتطرف الذي يحرق محلات التسجيلات الفنية في الثمانينات، هو نفسه السروري أو الإخواني المسيس في التسعينات وما بعدها، وكذلك الجهادي القاعدي التكفيري العائد من أفغانستان في الثمانينات ليفجر في وطنه وبين أهله، هو نفسه الجهادي الداعشي التكفيري بعد عام 2010.
أزعم أن استيعاب الفقرتين السابقتين يلخص الجانب الأكبر من أسباب صراعاتنا الفكرية والمجتمعية، ويوفر جهدا كبيرا في البحث عن حلول لأدوائنا الفكرية، ولمشكلاتنا المقلقة على مستقبل وطننا. بفهم أسباب خلْق الصراع، نستطيع فهْم الأحداث اليومية المبنية عليه، وعندي – وهو رأي قابل للرد والتصويب والتكذيب - أن أسباب إيجاد الصراع سياسية خالصة عند فئة، فيما هي ردة فعل أو مقاومة عند الفئة الأخرى، وأعني بالأسباب السياسية: الصراع على المجتمع بوصفه أفرادا قابلين لتأييد هذه الفئة أو تلك.
من المهم قبل أن أسوق بعض الأمثلة، إيضاح أنه لا علاقة لأسباب خلْق الصراع بالمقدّس/ الدين في ذاته، فهو لا يعدو – في هذه الحال الصراعية – أن يكون أداة مجردة استُخدمت لقوة تأثيرها في الناس، ولسرعة اندفاعهم – بوصفهم أفرادا متدينين فطرة – في الدفاع عن الفئة التي ترفع شعار المقدس، كما أنه لا صلة بينها والعادات والتقاليد القارّة في نفوس أفراد المجتمع، سوى صلة الاستخدام أيضا، من أجل الاستنهاض العاطفي الذي يضمن جمْع أكبر عدد ممكن من الحشود المؤيدة. وبالأمثلة تتضح الفكرة؛ فمن خلال فهم الفقرتين الواردتين في بداية المقال، نستطيع أن نعرف أسباب العنف والحماس المتجاوزين اللذين يمارسهما محتسب في معرض الكتاب، وبفهمهما نستطيع أن نعلل إقدام شاب فارغ، أو شابة معقدة على المجاهرة بالإلحاد في تويتر، وبفهمهما نفهم لماذا يتراقص شاب ملتح على شيلة تدعو إلى العصبية والعنصرية، فيما يصرخ غاضبا عندما يسمع أغنية مموسقة عن الحب أو الوطن، وبفهمهما ندرك لماذا يتقبل الشاب نفسه الآهات في الخلفية الصوتية لفيلم تسجيلي مهما كانت نشازا، ولا يتقبل مكانها تقاسيم على العود مهما كان حجم إبداع عازفها، والعكس صحيح، وبفهمهما نعرف لماذا يحث أحد المعلمين طلابه على قراءة دواوين العشماوي، ويحذرهم من قراءة شعر الثبيتي، وفي المقابل يحثهم زميله على قراءة دواوين الثبيتي، ويحاول إفهامهم أن العشماوي ليس شاعرا.
الصراع هنا – كما أزعم – ليس صراعا بين: حرامٍ صريح، وحلال بيّن، وإنما هو صراع حول خلافيات، أو هو صراع بين رؤيتين متنافرتين، عزز تنافرهما تياران لم يحاولا أن يلتقيا قط، فحوّلا صراعهما إلى صراع نفوذ وسيطرة على الوطن ومؤسساته، وعلى المجتمع وأفراده.
هذا الصراع قد يتحول إلى صراع وجود لا سمح الله، وحينها لن تنفع أي تيار انتصاراته المؤقتة، ولن يفيده دعم سلطوي حصل عليه في أوقات محددة، ولظروف سياسية معينة؛ لأن الصراع على الوجود سيأكل الأخضر واليابس، بما في ذلك ما يتصارعون للسيطرة عليه، وهو الوطن ومؤسساته ومواطنوه، وحينها – لا سمح الله – سيتفق الطرفان المتصارعان على ترديد قول الشاعر «ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع»، وهو اتفاق كعدمه.
ما زلنا نواصل الصراع الذي استشرى بوجود وسائل التواصل، وننسى أن للقلوب والأرواح وطنا عظيما هو نحن، وهو وجودنا، وهو مآلنا، وهو كرامتنا، وهو مستقبل أبنائنا وأحفادنا، فهل إلى تيار وطني واحد ذي روافد مختلفة من سبيل؟