رائد السمهوري

كان ابن تيمية مصلحًا، ولكنّه كان يعمل تحت راية «دولة المماليك». ولم يكن لديه «مشروع سياسيّ» منفصل، ولا نادى بالخلافة الإسلامية

يقول الشيخ راشد الغنوشي في كتابه «القدر عند ابن تيمية»: إن ابن تيمية هو «أبو الصحوة الإسلامية»، وهذا أمر معلوم من «العصر» بالضرورة، فشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ هو – من دون أدنى شك – أبو الصحوة الإسلامية، إذا فهمنا هذه «الأبوّة» المدّعاة من حيث كون آرائه وفتاواه واجتهاداته العقدية والفقهية هي المصدر الأبرز الذي يعود إليه أبناء التيار «الصحوي» كما يسمّى، ويستلهمونه استلهامًا، ويستشهدون به، ويستدلون صباح مساء.
غير أن الصحوة الإسلامية اليوم – وأرجو ألا يغضب مني أحدٌ ـ وإن كنت أعلم أن هذا غير مضمون – ليس فيها «نخبة» حقيقية، تعدّ امتدادًا «حقيقيًا» لابن تيمية، لا من حيث القدرة على التحليل، ولا من حيث الثقافة الواسعة، ولا من حيث القدرة الفائقة المدهشة على الحجاج والحوار، ولا من حيث طول النفس في الولوج في عالم العقليات والفلسفة، ولا من حيث الفرادة في الاستنباط والاجتهاد، إلى آخر تلك الصفات المدهشة حقًا التي وهبها الله ابن تيميّة، هذا العالم الفذّ النادر المثال حقًا وبلا مبالغة في علماء الأمة من قبل ومن بعد.
لا يخفى على كل ذي عينين أن الصحوة الإسلامية إنما نشأت على أثر سقوط «السلطنة العثمانية» التي يراد لها أن تسمّى «خلافة». وحاشا وكلا أن نجحد ما لهذه السلطنة العظيمة من آثار، ولا لما لبعض سلاطينها من صفحات بيضاء في التاريخ الإسلامي، لكننا أيضًا لن نغض الطرف عن هضمها حق العرب، ولا سيّما في أواخر عهدها، حين سارت على خطة «التتريك»، حتى إن الشيخ علي الطنطاوي ـ يرحمه الله ـ أخبرنا في مذكراته أنه كان في صباه يتعلم اللغة العربية ونحوها بشرحٍ تركيّ! حتى إن المعلم كان لا يتكلم إلا التركية، يشرح بها النحو العربي للعرب، فيقول لهم مثلًا: فاعل ندر؟ ومع الأسف نسيت معناها لأني عن كتب شيخنا الطنطاوي بعيد عهد.
ولما سقطت «الخلافة» العثمانية كان صدى سقوطها مدويًّا في العالم الإسلامي كله، ولم يكن «سياق» الدولة القطرية مفهومًا ولا مهضومًا، حتى إن أحمد شوقي «رثى» الخلافة رثاءً مؤثرًا حين قال:
عادت أغاني العرس رجع نواحِ 
ونعيتِ بين معالم الأفراحِ
كُفِّنتِ في ليل الزفاف بثوبه 
ودُفنتِ عند تبلّج الإصباحِ
ضجّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ 
وبكت عليكِ ممالكٌ ونواحِ
والهند والهةٌ، ومصر حزينةٌ 
تبكي عليكِ بمدمعٍ سحّاحِ
والشام تسأل، والعراق، وفارسٌ 
أمحا من الأرض الخلافةَ ماحِ
ليست أبيات أحمد شوقي هذه تعبيرًا عن «الحركة الإسلامية» ولا عن «الصحوة الإسلامية»، ولكنها تعبير عن «صدمة» العالم الإسلامي بسقوط هذا الكيان الواسع الذي كان يُظل هذه الشعوب العربية والإسلاميّة.
وفي هذا السياق نشأت الحركة الإسلامية، التي – في مراحل حاسمة ومؤثرة جدًا في سيرورة التاريخ العربي والإسلامي المعاصر – تبنّت منهج شيخ الإسلام ابن تيمية، تبنيًا أراه ناقصًا ومبتورًا ومشوّهًا، ومعزولًا عن سياقه التاريخي.
كانت الحركة الإسلامية، ثم من بعدُ، الصحوة الإسلامية، تمردًا على واقع الدولة القطرية، ورفضًا لها، بخشونة، أو بنعومة. في الوقت الذي تقبّل خصومهم هذا الواقع وعملوا على ترسيخه. ولا يزال «طيف الخلافة» الإسلامية يداعب خيال الصحوة الإٍسلامية حتى هذه اللحظة، على الرغم من قبول «بعض» أطيافها قبولًا كاملًا أو جزئيًا لواقع الدولة القطرية، وطريقة الحكم وتداول السلطة، وأذكّر هنا بأنه من «الجور في الحكم» وضع جميع أطياف الحركة الإسلامية والصحوة في سلة واحدة؛ ففي الإسلاميين معتدل ومتطرف، كما في خصومهم معتدل ومتطرف.
وهنا أستطيع أن أقول إن كلا الطرفين؛ الحركات الإسلامية والحركات العلمانية، أبناء «سياق» واحد، فأبو الصحوة الإسلامية، إذًا، ليس ابن تيميّة - على التحقيق - بل هذا السياق التاريخي، وهذه الملابسات السياسية والاجتماعية التي مرّت بها الأمة الإسلامية. وما ابن تيميّة إلا «الزاد» الذي تتزوّد به الصحوة الإسلاميّة لتبرير موقفها الذي إنما نتج من هذا السياق، بوعي أو بغير وعي. ولا تزال الأيام القادمة حبلى، ولا نزال نرى التغيّر الذي لا بدّ منه – بأثر الواقع والأحداث – يفعل فعله في الحركات الإسلاميّة المعاصرة. وسبحان من يغيّر ولا يتغيّر.
شيء آخر يشكك في «أبوّة» ابن تيمية للحركات الإسلامية المعاصرة ذات «المشروع السياسيّ»، هو أن ابن تيمية لم ينشئ تنظيمًا – على الرغم من زعم بعض أبناء الحركة كعبدالرحمن عبدالخالق مثلًا الذي ألف كتابًا بعنوان «ابن تيمية والعمل الجماعي»، ليشرعن التنظيمات ويجعل لها أصلًا في فكر ابن تيمية.
كان ابن تيمية مصلحًا ولا شك، ولكنّه كان يعمل تحت راية «دولة المماليك». ولم يكن لديه «مشروع سياسيّ» منفصل عن دولة المماليك وسلطانها، ولا نادى بالخلافة الإسلامية، بل كان يرى أن النظام الأفضل هو «الأصلح» للناس، فإن كانت الخلافة فالخلافة، وإن كان الملك فالملك، فليس موقفه من الأنظمة «يابسًا».
كان ابن تيمية عالمًا داعية مصلحًا، له مشروع دعوي «إصلاحي» محض، وكان وليّ الأمر «المملوكي» يستشيره أحيانًا فيشير عليه، وفي كتاب الرسائل والمسائل بعض ما كتبَه إلى السلطان الناصر في ذلك الوقت، يشير عليه ببعض الشؤون التي استشير فيها. وكان مع دولة المماليك ضد دولة التتار، يعمل تحت لوائها، وبإمرة سلاطينها، ولم تكن دولة المماليك دولة «إسلامية» إلا كما هي بعض دولنا العربية اليوم إٍسلامية، ومن يقرأ فتاوى ابن تيمية – التي هي بنت واقعها – يدرك تمام الإدراك بعض ما كان سائدًا في ذلك الوقت من المشكلات السياسية والاجتماعية التي شغلت ذهنه آنذاك.
ولئن سلّمنا أنه قد كان لابن تيمية مشروع سياسي، فليس هو إلا «تعضيد دولة المماليك» في مواجهة التتار التي صادف أنها تبنّت المذهب الاثني عشري، أو «معاقبة» بعض الجيوب «العاصية» على الدولة المملوكية والتي كانت تتبنّى أيضًا المذهب الشيعي، من مثل حملة «جبل كسروان» والتي «تابع» فيها ابن تيمية، عزيمة وليّ الأمر في معاقبتهم – بحسب تعبير ابن عبدالهادي في كتابه العقود الدرية -، وليس ابن تيمية هو الذي دعا إليها أصالةً.
فتأمّل يا رعاك الله، وأعد قراءة ابن تيمية في سياقه، يتجلّ لك ما لا يتجلّى حين تقرؤه معزولًا عن تاريخه.