عرفان نظام الدين

تعلمت خلال حياتي المهنية والشخصية أن التكاذب أصبح جزءاً من حياتنا اليومية وعاداتنا وسياساتنا العربية وأساساً في السياسة الدولية، فليس كل ما يُعلم يقال، وليس كل ما يقال صحيح ودقيق، إن لم يكن كاذباً مئة في المئة أو بنسبة أقل، وفي بعض الأحيان يكون مقصوداً ومفبركاً لغايات في أنفس يعاقيب هذا الزمان.

حتى التاريخ الذي تعلمناه في المدارس والجامعات وسمعناه في مجالسنا وندواتنا إما هو مزوَّر أو مغرِض أو جاء من طرف واحد، إذ إن من يتعمّق في البحث والتدقيق الموضوعي يجد ثغرات ومعلومات غير دقيقة أو مدسوسة من جانب أصحاب الغايات والمغرضين و «وعاظ السلاطين». وأكبر دليل على هذا الواقع المؤسف ما نشهده هذه الأيام ونلمسه لمس اليد في السياسة والمناهج التعليمية والإعلام الرسمي والخاص من موبقات وأكاذيب وإشاعات تُنشر وتبث على أنها حقيقية، ثم يبنى عليها ما تسرب من تحليلات لتحويلها أمراً واقعاً لا لَبْس فيه ولا مجال لإنكاره أو التشكيك به أو حتى إبداء الرأي في شأنه.

ومن يتابع نشرات الأخبار، ومقدماتها على وجه التحديد، يكتشف حجم التحريف والتدليس في كل خبر وفي كل حدث مهما كان حجمه أو أهميته. ففي كل محطة تلفزيونية أو إذاعية يصاغ الخبر «وفق الطلب» لتحقيق أغراضه، ما يدفع المتلقي إلى الحيرة والشك أو ترديد ما يقال كالببغاء، وفق الجهة التي ينتمي إليها، فتضيع الحقيقة ويحتاج المتلقي إلى مجهر يتنقل به بين المحطات ليلتقط إشارة ما يحل بها لغز الكلمات المتقاطعة ويفهم منها ما يجري ليبني على الشيء مقتضاه.

فإذا كنّا نواجه بحقائق دامغة عن هذه الآفة بتشويه الصورة والحوادث والسياسات والأشخاص الذين يشكلون أسس تاريخنا المعاصر، فكيف لنا أن نصدق روايات حصلت قبل مئة أو ألف سنة أو أكثر، وكيف نسلم بالبديهيات ونحن نعيش حالة مرضية تقوم على مبدأ غوبلز: «إكذب، إكذب، إكذب... حتى يصدقك الناس». فكلما كانت الكذبة كبيرة... صدقها الناس لعلها تتحول إلى حقيقة واقعة، مع أننا نعرف أن «حبل الكذب قصير» وأن الصدق ينجي من كثير من الإحراج والمشكلات والوقوع في فخ الفضيحة وسقوط الأقنعة وانكشاف الحقيقة.

وفي عالمنا العربي تربينا منذ الصغر على مقولة «الكذب ملح الرجال»، ونحن نمارسه بكل فخر وصفاقة وندس معه أكذوبة «الكذبة البيضاء»، فالحاكم يكذب على شعبه ويغدق عليه الوعود والمكرمات الخادعة والانتصارات المزعومة ويكذب على شركائه في الحكم الذين يكذبون بدورهم على أنفسهم، ثم يرددون الأكاذيب ويحملون لواء الدفاع عنها وكأنها جاءت من الصادق الوحيد في العالم.

وبعض أفراد الشعب يكذب على الحاكم، وعلى نفسه، إما خوفاً من بطشه أو «طلباً للستر» أو طمعاً بوظيفة وفائدة مادية ومكسب ما. والمعارضة تكذب بدورها على الشعب وتدّعي العفة والوطنية والشفافية ومحاربة الفساد، وما إن تصل إلى الحكم حتى تمسح وعودها وتمارس الأساليب ذاتها وترتكب الموبقات وتردد الأكاذيب عينها التي حاربتها.

وبعضهم الآخر يتخذ الدين ستاراً ويضلل ويفتري على الله، عز وجل، وعلى الرسول محمد، (صلى الله عليه وسلم)، ويفتي بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، إما جهلاً أو لغاية خبيثة بهدف إثارة الفتن وتشويه صورة الإسلام.

وفي الحياة الاجتماعية الكل يكذب على الكل، وفي بعض الحالات تكذب المرأة على الرجل وتدعي الحب والهيام، ويبادلها الرجل كذباً ليخفي خياناته لها، ويتفاخر بنساء عربيّات رائدات عبر التاريخ، ثم يضطهد المرأة ويحرمها من أبسط حقوقها، ويستند إلى الفتاوى الكاذبة التي تسجنها وراء قضبان زائفة ويشل حركتها ويدمر شخصيتها ويقتل طموحاتها.

وحتى لا نتمادى في «جلد الذات» وحصر الآفة بأمتنا، والعرب عموماً، لا بد من الجزم بأن الكذب مرض عام منتشر في العالم. فالتكاذب سياسة دولية ثابتة وتمارس كل يوم من جانب كل حاكم وسياسي، وآخرهم الرئيس الأميركي المثير للجدل دونالد ترامب الذي يحاضر كل يوم في العفة والوطنية وشعارها «أميركا أولاً»، ويهدد حياة المهاجرين ويمنع دخولهم بزعم الحفاظ على هوية الأميركيين. وهو يعلم، والعالم كله يعلم، أن الولايات المتحدة هي بلد المهاجرين من كل أرجاء المعمورة وواحة «حلمهم الأميركي» عبر التاريخ. كما أن ترامب ومناصريه يعرفون أن الأجداد ذبحوا مئات الآلالف من الهنود الحمر، أصحاب الأرض الأصليين الذين تعرضوا لتصفية عرقية واضطهاد لا مثيل له.

بعد كل هذا، يتحدثون عن الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي والضمير العالمي ويدعون الدفاع عن حقوق الإنسان، وهم أول من ينتهكها. ويطالبون بديموقراطية عربية وهم أول من أجهضها وساند الديكتاتوريات؟ ويشجعون قيام ما سمّوه «الشرق الأوسط الجديد» بعدما تآمروا على تدميره وأثاروا الاضطرابات والفتن والحروب ونهبوا ثرواته.

إلا أن أكبر فضيحة في العالم لم يشهد لها التاريخ مثيلاً تمثلت في مؤامرة إقامة إسرائيل في فلسطين العربية وتشريد شعبها الأصيل، صاحب الأرض والحقوق، وترداد مزاعم الديموقراطية الوحيدة في المنطقة وإضفاء كل أوهام الشرعية عليها. فهذه هي أكبر كذبة في تاريخ البشرية، ولو استخدم جهاز كشف الكذب لاهتزت عروش واكتشف العالم حقيقة الجرائم التي ارتكبها الصهاينة ضد المدنيين العُزَّل من ذبح وقتل وقصف وأسر وتنكيل وتشريد وهدم بيوت على رؤوس أصحاب الحق والهوية، وتم فضح الأساليب القذرة التي لجأت إليها إسرائيل لتزوير الشرعية وتمرير هذه الكذبة ومعها مزاعم «شعب الله المختار» في فلسطين العربية أباً عن جد. ونشهد الآن في غفلة من العرب مؤامرة تشريع المستعمرات وضم القدس الشريف والتمهيد لهدم المسجد الأقصى المبارك، على رغم أن الصهاينة لم يعثروا على دليل واحد يثبت مزاعمهم. وبكل أسف، فإن بعض العرب تغاضى عن الجرائم أو مد اليد إلى من ذبح أهاليهم وسرق حقوقهم، على رغم علمهم أن الحق لا بد من أن يعود إلى أصحابه بإذن الله لأنهم يستطيعون أن يخدعوا بعض الناس بعض الوقت، لكنهم لن يستطيعوا خداع كل الناس كل الوقت.

والأمثلة كثيرة عن الكذب والكذابين والنفاق والمنافقين في ديارنا، وفي العالم كله، وعن دأبهم على إقناع الناس وجرهم إلى مصير محتوم مع أن الكذبة لا سيقان لها ولا تستطيع الوقوف، وأن الكذبة التي هي نصف الحقيقة هي أشد أنواع الكذب سوءاً.

وما يهمنا هنا، ونحن على أبواب مفترق طرق في حروبنا وأزماتنا والفتن التي تعصف بالدول العربية، هو التنبيه بأن الحلول المفروضة لا تفي بالغرض ولا تحقق سلاماً طالما أن أساليب التكاذب هي السائدة، وأن سياسة الإنكار تتغلغل في نفوس الكبار والصغار والحكومات والمعارضات. فلا الحاكم يعترف بوجود المعارضة، أو على الأقل الرأي الآخر، ولا المعارضة تعترف بشرعية الحاكم... والشعوب حائرة واقعة بين المطرقة والسندان وتتحول إلى شاهدة زور تحمل أوزار «الشيطان الأخرس» الساكت عن الحق أو المدافع عن الجرائم والمصدق للأكاذيب والمروّج لها.

الطريق إلى المصالحة يجب أن يبدأ بالمصارحة، ما يعني نبذ الكذب والنفاق والاعتراف بالآخر، مهما كان حجمه، ودعوته إلى المشاركة في الحوار وإن كان في بعض الأحيان هو جزء من المشكلة، فالتناحر لا يفيد، والإقصاء والاجتثاث مدمر والتفرد بالحكم يفتك بالأوطان ويقضي على الشعوب.

هذه الحقائق يجب أن تدفع جميع الأطراف إلى فتح صفحة جديدة والكف عن تبادل الاتهامات وترديد الأكاذيب والمضي في التكاذب وإنكار وجود الآخر، علماً أن دراسة علمية حديثة أكدت أن الكذب يقصف الأعمار، ما يعني أن من لم يمت بالقذائف والرصاص سيموت من شدة الكذب.

وللتأكيد على مآسي حالة التكاذب التي نعيشها واستغلال الشعوب والنَّاس الطيبين هناك مقولة للفيلسوف والأديب الفرنسي الشهير فولتير: «السياسة هي وسيلة لرجال لا مبادئ لهم ليقودوا رجالاً لا ذاكرة لهم».

وأختم مع حكاية لي مع أحد كبار المسؤولين العرب (رحمه الله)، فقد روى لي مواقف غريبة قال إنه سيعرضها على مؤتمر القمة العربية، ولم أستطع هضمها أو تصديقها مهما حاولت. وعندما قلت له: «أنا سأكون صادقاً معك وحريصاً عليك، فهذه القصة خيالية ولن يصدقها أحد». وبدلاً من أن يغضب... ضحك ورد عليّ قائلاً: «بسيطة، ما كلهم بيكذبوا»!

نعم. صدق الرجل، فكلهم يكذب، وما علينا نحن البسطاء الذين لا ذاكرة لنا إلا أن نصدّق... ونصفّق!