حسين شبكشي

لا أعلم تحديداً عدد المرات التي يتم مناداتي فيها بـ«الدكتور» حسين، ولكنها على ما يبدو حالة ذهنية شعبية في وجدان العامة أن كل من يكتب في أي وسيلة إعلامية لا بد أن يكون «دكتوراً». وفي كل مرة، أنفي تماماً أني دكتور، أو أني حصلت على هذه الدرجة العلمية بأي شكل من الأشكال. وهذا يأتي في رأيي نتاج اعتقاد قديم متوارث عبر السنين الطويلة أن شهادة الدكتوراه هي الوسيلة المؤكدة للوصول لأعلى المناصب، والحصول على الجاه والتقدير المهمين في الأوساط الاجتماعية.


ولذلك أصبح هناك «شلالات» من شهادات الدكتوراه تصدر وتقدم لأتفه المواضيع، مواضيع هي في الواقع أغرب من الغرابة، ولا يعرف الفائدة المضافة العلمية لها، بل إن إحدى الجامعات المعروفة في إحدى الدول العربية الكبرى باتت تعتبر أكبر الجامعات تصديراً لشهادات الدكتوراه. هناك شهادات صدرت في مواضيع مخجلة، مثلاً هل مات الظاهر بيبرس في الحمام أم خارجه؟ وموضوع آخر ما أصل الرز السليق، وثالث ما أنواع الغازات التي تصدر من الإنسان؟ وما آثارها على النظافة، وغيرها كثير من التوافه، وكلها ينطبق عليها دعاء «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع».
ارتبط العلم والتعليم في ذاكرة الناس بـ«الشهادة»، خصوصاً إذا كانت شهادة الدكتوراه. وهو حال وصفه باقتدار نجم الكوميديا الكبير عادل إمام، حينما صرخ في إحدى أشهر مسرحياته بعبارته الخالدة: «بلد شهادات بصحيح». والاهتمام بالتعليم وهوس الشهادات الكبيرة، حتى لو تم تزويرها أو شراؤها بأبشع الوسائل والطرق، فهي غاية تبرر لأجلها كل وسيلة، ولد أجيالاً من نوعية الطالب الذي «حفظ، ولكنه لم يفهم» لأن الاهتمام بالتعليم كان على حساب الثقافة، فكانت النتيجة أجيالاً تخاف المشاركة في الرأي، والبحث بعمق فيما يعطى لها، وتكوين فكر ناقد وباحث، ولذلك عندما «فتحت» المجالات، عبر أدوات التقنية وقنوات التواصل الاجتماعي، تبين الكم الهائل من الفوضى المكبوتة، وانفجرت مواسير الغث من الآراء والإشاعات المبنية على الغضب والنميمة والحقد، لا على البحث والدقة والمعلومة، فأوجدت مجتمعات أشبه بالقطيع تتحرك خلف النميمة وليس الخبر، والرأي وليس المعلومة.
تحولت «الدال» التي تقع قبل اسم حامل شهادة الدكتوراه إلى مفتاح للوصول إلى منصب المستشار أو الوزير أو المدير، وحاملها ليست لديه الخبرة العملية اللازمة، ولكنه «نظرياً» فاهم الموضوع، فبالتالي يستحق المنصب المذكور المشار إليه.
هناك جامعات عريقة تعيد النظر في الشهادات العليا التي تقدمها، وتقيسها على انعكاساتها على سوق العمل، وهي حتماً لا تدخل شهادة الدكتوراه ضمن الشهادات المؤثرة على سوق العمل المفتوحة، فهي تعتبر هذه الشهادة سلاحاً أكاديمياً بحتاً لصاحبها، تمنح صاحبها الفرصة الأفضل للعمل بتميز في الحقل الجامعي والبحثي.
التعليم بحاجة لغربلة جادة في العالم العربي، هذه مسألة ليست بالجديدة، بل على الأرجح قتلت بحثاً وجدلاً، ولكن الأهم اليوم هو تعاطي المجتمع مع الإرث القديم، والصورة الذهنية الراسخة عن العلم والشهادة. وسائل التثقيف، وخصوصاً الذاتي منها، تغيرت بسبب التقنية الحديثة، واليوم الكم المعلوماتي المبعثر والمشتت الذي في حوزة عقل ابن التاسعة يفوق ما لدى دكتور جامعي قديماً. هذا هو الواقع الجديد الذي لم تتنبه إليه المنظومة التعليمية في العالم العربي لليوم، وكل ما تحاول أن تعمله هو ترميم الماضي القديم الذي لم يعد له أي علاقة بالعالم المعاصر..