توفيق السيف

أعلم أن غالبية معارضي الإصلاح الديني قلقون من حقيقة أن الإصلاح المنشود، ينطوي - صراحةً أو ضمنياً - على انفتاح غير محدود على ثقافة الغرب ونظامه المعرفي والقيمي، وأن هذا الانفتاح سيقود في نهاية المطاف إلى تهميش بعض القيم والرؤى وقواعد العمل، التي اعتبرناها - لزمن طويل - بين المسلمات التي لا تناقش.


هذا النقاش ليس جديداً، فهو يرجع إلى قرن من الزمن أو يزيد. وأميل إلى الظن بأن النقاشات القديمة والجديدة في الموضوع قد مرّت سريعاً على عنصر جوهري، لو نوقش بانفتاح وتفصيل، فلربما ساعد على حل الإشكال.
ذلك العنصر هو موقع المادة المستوردة في نظامنا المعرفي والقيمي. وبالتالي تأثيرها المزاحم لبقية المعايير التي ينطوي عليها ذلك النظام. لتوضيح الفكرة دعنا نضرب مثلاً بمبدأ حقوق الإنسان الذي استوردناه من الإطار المعرفي الغربي. ينطوي هذه المبدأ على جملة من القيم الأساسية، التي تتعارض حدياً مع مسلماتنا ونظام حياتنا. من ذلك مثلاً حرية الاعتقاد والتعبير، وحق الانتقال والعمل والسكن واختيار نمط المعيشة. فهذه من أساسيات مبدأ حقوق الإنسان الغربي. لكنها جميعا تنطوي على تعارض مع أعراف وقيم مستقرة في نظامنا الثقافي أو الاجتماعي أو المفهوم الديني. ومن المؤكد أن استيعابها في هذا النظام، سيؤدي إلى تهميش كثير من القيم والأعراف التي نعتبرها تمثيلات للحق أو ضرورات للعيش، أو نصنفها كمسلمات لا نعرف فحواها، لكننا نقبلها تعبداً.
من يعارضون الانفتاح محقون تماماً في القول بأن هذا التزاحم سينتهي إلى غلبة القيم الوافدة وهزيمة نظيرتها الموروثة. نعلم هذا، ونعلم أن جميع التجاذبات المماثلة بين الموروث والوافد ستنتهي عاجلاً أو آجلاً بانهيار الأول، لسبب يعرفه كل الناس، وهو أن أي قيمة غير مؤسسة على أرضية عقلانية، أو لا تحقق مصلحة يمكن تحديدها وحسابها، فإنها ستخلي مكانها لنظيرتها من الجبهة الأخرى.
نستطيع القول إذن إن جوهر المشكل في جبهتنا يكمن في عقلانية القيم والأعراف والرؤى والمناهج التي نتبناها كمسلمات، أو نعتبرها دلالات أو معايير للحقيقة.
هذا يعيدنا إلى فاتحة المقالة، أي علاقة إصلاح الخطاب الديني بالموقف من الغرب. وزبدة القول في هذا المجال إن الفكرة الجوهرية في دعوة إصلاح الخطاب الديني، هي إعادة بناء القيم الدينية والأعراف الاجتماعية على أرضية عقلانية. ومن ثم اعتبار المصالح الناتجة عن تطبيق مؤديات تلك القيم وأحكامها معياراً لقبولها أو طرحها. حين تتزاحم الرؤية الغربية لحرية التعبير مثلاً، مع نظيرتها في الفهم الفقهي أو العرف الاجتماعي، فإن معيار التفاضل بينهما هو الناتج الفعلي، وليس الجدل المنطقي أو التاريخي حول هذه أو تلك.
تتعارض هذه الرؤية مع المنهج الذي يدعو للأخذ بظاهر النص أو قول الفقيه «تعبداً». كما تتعارض مع القول بوجود علل خفية لا يدركها العقل. تجادل هذه الرؤية بأن كل حكم وضع لحكمة، أو لتحقيق مصلحة قابلة للإدراك، ولهذا أصبحت فرضاً يحاسب الناس عليه.
هذا هو الخط الأول في دعوة إصلاح الخطاب الديني، وهو وسيلتنا للخلاص من قلق التفاوت بين ما لدينا، وما يعرضه تطور العلم والعالم علينا.
نحن نقول بالفم الملآن إن دين الإسلام قام على أرضية عقلانية، وإن أحكامه محكمة منطقياً ومصلحياً. دعونا إذن نجرب سلامة هذه الدعوة في الواقع، دعونا نطرحها في مقابل نظائرها المنتجة على أرضيات معرفية أو آيديولوجية مخالفة.. . . .