حسام عيتاني

تفرض المآسي اختبارات صعبة على اللغة وعلى القدرة على التعبير عن الواقع بالأدوات المتاحة. يهرب المعنى من الكلمات التي تبدو قاصرة ومفلسة عن التقاط هول الحدث وتعارضه مع الأشكال التقليدية للاستيعاب والإدراك وبالتالي العقلنة.

ذاك الطفل من خان شيخون الملقى ميتاً على السطح الحديدي لشاحنة صغيرة، شبه عار والناظر الى الأعلى بعينين واسعتين وفاتحاً يديه كما يفعل الصغار عندما يصابون بالدهشة الكبيرة فيسألون «لماذا؟»، كيف يمكن فهم ما اصابه ونقله بكلمات ذات معنى الى منظومة متسلسلة من الحوادث السببية الجارية في سورية منذ 2011؟. 

كيف يمكن شرح مصطلحات مثل «السارين» والموت بغاز اعصاب وتكديس الجثث باستخدام لغة ما عادت تكفي ليس لوصف الواقع وتصويره، بل حتى لفهمه والإحاطة به وبمعانيه ودلالاته؟

ثمة انصار لمقولات من مثل «موت المعنى» و «موت اللغة» و «موت الكاتب». حسناً، لكن كيف نصوغ «موت الواقع» الذي جاءنا على صورة طفل خان شيخون المختنق بغازات اطلقتها حكومته عليه وعلى أشباهه من اطفال قتلوا من دون ان يعرفوا «لماذا» ففتح الطفل يديه على ذلك النحو المتسائل بعد موته؟ ماذا يقال امام مشهد طفل يكافح للحصول على قبضة من الهواء ويلفظ انفاسه امام المصور المشلول تماماً مثله مثل المشاهد؟

تبدو بائسة كلمات التنديد والاستنكار والتفجع في عجزها وفقرها وانعدام إقناعها حتى لقائليها امام دهشة الطفل القتيل، دهشته من هذا العالم غير المفهوم الذي يستطيع، مع ذلك، فهم وتبرير بل والشماتة بموت وحشي مجاني بغازات نظام بشار الأسد وأسياده وأتباعه. ماذا تعني كلمة الاستنكار؟
هل فكّر قائلها بما تفترض عليه فعله بعد قولها، ام أن لا صلة في تصوره بين ما يلفظ وبين ما ينطوي عليه اللفظ من تبعات ومسؤوليات؟ وبالقدر ذاته، تفتقر الى الحد الأدنى من الأخلاق كل محاولات لوم الضحية على معاناتها وموتها ووضعهما، المعاناة والموت، في سياقات تنضح نذالة عن صراعات اقليمية وسياسية وإستراتيجية دفع مدنيون ثمناً لها.

ما المعنى من كل ذلك؟ لا فائدة ترتجى من كلام عن سقوط مركزية الحياة البشرية من القيم الحافظة لآدمية المجتمعات ومن تحذيرات من انحدار الى همجية باتت جزءاً مكوناً من يومياتنا ومشاهداتنا. ولا هدف من تكرار الحديث عن عجز المجتمع الدولي والعالم والحضارة عن انقاذ انفسهم قبل انقاذ الأطفال المختنقين بـ «السارين». لقد خرج الواقع من الأطر التقليدية التي عرّفته وفسرته في القرون التي بدأت مع التنوير والحداثة. الانتكاس الى عصور الظلام يحتاج الى لغة جديدة تفسره وتقاومه.

لا تشير هجرة المعنى للكلمات الى البرزخ المتزايد الاتساع بين الواقع وبين القدرة على تفسيره وفهمه فحسب بل ايضاً الى انحطاط الغاية التي يسعى الى تحقيقها حملة لغة فقدت دلالاتها وزُجّت في دهاليز الاستغلال الوظيفي السطحي والمبتذل. وإذا صح ان الاسم الرمزي لقصف خان شيخون هو «عملية قدس 1» (وقيل ان هذا رمز النداء للطائرة التي نثرت الغاز القاتل على المدينة)، نكون قد وصلنا الى درك جديد من الافتراق بين الكلمات ومعانيها.

رافق انهيار مجتمعاتنا ودولنا في العقود الماضية، انهيار آخر في اللغة والدلالة والمعنى والصورة وفراق بائن بين العناصر هذه كلها، بحيث لم تعد اي كلمة تعني اي شيء، ما مهد الطريق ووسّعه امام عدمية يفتح الطفل الميت في خان شيخون ذراعيه النحيليتين حيالها متسائلاً: لماذا؟