سمير عطا الله

كانت تربطني مودة بالراحل جبران كورية، الناطق الصحافي باسم الرئيس حافظ الأسد. وقد دعاني غير مرة إلى «مقره» الآخر بعد القصر الجمهوري، وهو عبارة عن مقهى شعبي تحت أشجار بردى. 

وكانت له طريقة في لفت النظر لا أنساها. وذات مرة أراد أن ينتقد ما أكتبه عن صين ماو تسي تونغ، فأدار وجهه عني، وكأنه يخاطب شبحاً في الجانب الآخر من الطاولة، وقال: «لكن ماو، عندما حكم البلاد، كان الصينيون يصنعون أحذيتهم من القش».

ذهبت الكاتبة الأميركية بربارة تاكمان إلى الصين أواخر الستينات بدعوة من حكومتها، ووضعت عن الجولة كتاباً صغيراً بعنوان «ملاحظات من الصين» لم أقرأه إلا مؤخراً. وكان أول ما لفت نظري فيه أن جنود ماو تسي تونغ، وليس شعبه فقط، كانوا يصنعون أحذيتهم من القش لشدة الفقر الذي حاول ماو محاربته. وترسم تاكمان صورة بالغة الكآبة للريف الصيني والفلاحين الذين يجرّون محاريث الفلاحة والعربات، بدل أن تجرها الثيران.

وتمتد الكآبة برغم أنك تقرأ عن تاريخ مضى وشعب بعيد. وأرفقت المؤلفة الكتاب الصغير الحجم بصور للصينيين أنصاف عراة، ناحلين، وحزانى الملامح. وقالت إن الفلاح يقوم بنفسه بكل ما يقوم به الجرار الزراعي في أميركا وأوروبا.

تراوحت أعداد الذين فقدتهم الصين في «المسيرة الطويلة» و«القفزة الكبرى إلى الأمام» بين 40 إلى 60 مليون إنسان. قفزة من دون جرار آلي. مسيرة طويلة من دون قبضة أرز. لماذا؟ لأن ماو كان يريد أن يثبت انتصار الشيوعية. حقق هذا الانتصار خلفه دنغ كسياو بنغ، عندما نفض جانباً، ورمى قصائد «الكتاب الأحمر» من النافذة، واستورد الجرارات والسيارات والشاحنات والطائرات. ولم يعد الفلاح الصيني عارياً، ولا جائعاً، أو يفقد حياته بسبب قبضة من الأرز.

ماذا فقدت الصين من كرامتها الوطنية بعد ماو؟ لقد أصبحت ثاني اقتصاد في العالم خلال ثلث قرن، ولا يزال الحزب الشيوعي هو الحاكم، وهو الذي يضبط إدارة الدولة. لو عاتبني جبران كورية مباشرة، ولم يخاطب شبحاً لا نراه، لشرحت له، أنني أقف إلى جانب الصينيين، وأنني أعرف ماذا كانت عليه الصين قبل ماو، لكنني أفضل للبشر رجلاً يؤمّن الأرز والأحذية من دون أن يكون الثمن 40 مليون بشري.