مأمون فندي

 كما غير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قواعد اللعبة في سوريا من خلال تدخله المباشر في سوريا، يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب يغير قواعد اللعبة في سوريا مرة أخرى، فهل يصمد ترمب لعامين من التدخل المباشر كما صمد بوتين أم أن صواريخ توماهوك الأميركية كانت رفع عتب؟

الحقيقة هي أن المشهد السوري وبصواريخ ترمب أصبح أكثر تعقيداً. وإذا دققنا النظر قد يتكشف لنا أن صواريخ توماهوك الأميركية الموجهة في ظاهرها إلى نظام الرئيس السوري بشار الأسد، هي في الحقيقة موجهة إلى إيران أو في أسوأ الأحوال مقدمة لحرب ترمب ضد إيران. بشار الأسد ليس لاعباً رئيسياً في سوريا من وجهة النظر الأميركية، فاللعبة الأميركية كانت دائماً في منطقة الشرق الأوسط لعبة إقليمية لها تبعات دولية. عندما كتبت هنا منذ أكثر من أسبوعين عن القيادة المحيطة بالرئيس دونالد ترمب وتوجهها الاستراتيجي ركزت على شخص وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومن بعده خصصت مقالاً يكشف عن تفكير مستشار الأمن القومي إتش آر مكماستر الذي تربطني به علاقة شخصية. الفكرة كانت أن الرجلين (ماتس ومكماستر) يمثلان توجهاً استراتيجياً أميركياً تجاه الشرق الأوسط بني عن علم ومعرفة وعلاقة عمل بالمنطقة فقد عمل ماتيس كقائد للمنطقة المركزية الممتدة من أفغانستان حتى شمال أفريقيا وعمل ماكماستر مع قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس، هذه الخبرة أكسبت الرجلين معرفة مباشرة بمشكلات الشرق الأوسط، ويتفق الرجلان على أن إيران هي أساس المشكلات في الشرق الأوسط من العراق مروراً بسوريا ولبنان والبحرين واليمن. هؤلاء هم القادة الذين وافقوا على توجيه صواريخ توماهوك على سوريا، وكلاهما لا يرى الأسد لاعباً أساسياً في الصورة الإقليمية الكبيرة، ولكن يرونه على أنه يمثل واحدة من الأدوات الإيرانية لتوسيع نفوذها في المنطقة.
ذكرت في مقال سابق أن رؤية جيمس ماتيس حول إيران يمكن استشفافها من كلمته التي ألقاها أمام معهد الدراسات الاستراتيجية بواشنطن في أبريل (نيسان) 2016. في تلك الكلمة رسم جيم ماتيس ملامح تفكيره الاستراتيجي فيما يخص منطقة الشرق الأوسط من حيث نوعية التهديدات ونوع الأعداء وكذلك طبيعة الحلفاء.
ملخص كلمة ماتيس في معهد الدراسات الاستراتيجية بواشنطن قبل أن يصبح وزيراً للدفاع، تمثل جوهر تفكيره الاستراتيجي فيما يخص منطقة الشرق الأوسط، وهي رؤية تتمحور حول الدور الإيراني في نشر الفوضى وعدم الاستقرار في الإقليم بداية من تبنيها من حيث الإرهاب كأداة للسياسة، إضافة إلى التهديد التقليدي التي تمثله في البحرين واليمن ولبنان وسوريا وأيضاً التهديد النووي والصواريخ الباليستية، ورغم أن جيمس ماتيس ليس مع تفكيك اتفاق خمسة زائد واحد مع إيران، فإن الرئيس دونالد ترمب قد يرى ذلك، النقطة التي أريد التركيز عليها هنا هي أن الصواريخ الأميركية هي مقدمة لضربة أميركية لإيران، وليس المقصود بها النظام السوري وحده.
ماذا تعني الضربة الأميركية بالنسبة لروسيا ولنظام بشار الأسد ولمعارضته ولقيادات الإقليم مجتمعة؟ أولاً بالنسبة لروسيا يعتبر تحدي الضربة الأميركية بداية لملامح مواجهة مع رئيس ظن الروس أنه صديق لهم، ومن هنا وجبت مراجعة حساباتهم تجاه أميركا ترمب، ومراجعة حساباتهم فيما يخص لعبة الشطرنج الإقليمية من ليبيا، مروراً بمصر إلى سوريا. وقد يفكر الروس ملياً في نوعية المقايضة مع ترمب التي ستفضي إلى تقاسم الأدوار في سوريا، وإفساح الطريق أمام أميركا لضرب إيران. أما بالنسبة لنظام بشار الأسد فإنه سيعيد حساباته أكثر من مرة، ويدرك أن الأمور دخلت مرحلة الجد مع أميركا ترمب، الرئيس الذي لا يمكن قراءة شخصيته أو ردود أفعاله. لذا سيضع بشار الأسد قضية بقائه وليس بقاء نظامه كأولوية في وجود رئيس مثل دونالد ترمب يتمتع بتلك القوة.
أما قادة الإقليم فسيعيدون حساباتهم فيما عرف بالانسحاب الأميركي من المنطقة، وواضح من الأصوات المؤيدة للضربة أن القيادات الإقليمية ما زالت تراهن على دور أميركي أكبر لدرء خطر إيران من ناحية، ولوضع حد لتوسع روسي محتمل. أما نظام طهران فردود فعله هي التي تستلزم قراءة متأنية. ولوضع ملامح هذه القراءة لا بد أن ننظر إلى أمرين على النقيض من بعضهما، لرسم إطار الصندوق الذي تحدث فيه السيناريوهات المحتملة. السيناريو الأول هو أن ضربة ترمب في سوريا ستجعل النظام الإيراني أكثر تطرفاً، أما السيناريو الثاني فهو استيعاب خطورة التفكير الأميركي الحالي، ونوعية القوة التي يمكن أن تستخدمها أميركا ترمب لوضع إيران داخل حدودها.
في نهاية المطاف، واضح من الطريقة التي أبلغ بها الأميركيون حلفاءهم الأوروبيين وكذلك الروس أيضاً، أننا أمام أعمال عسكرية جادة لا لبس فيها، وعلى كل الأطراف أن تكتفي بالعلم بالشيء دونما تدخل أو اعتراض. وهذا ما يوحي بأن الأمر أكبر من سوريا ومن الأسد. كنا في سنوات فرض فيها بوتين رؤيته لسوريا وللمنطقة، أما الآن فنحن بكل تأكيد أمام رؤية ترمب، ولو كنت في طهران لأخذت هذا الأمر إلى أبعد حدود الجدية.. .