توفيق السيف 

أثار الهجوم الإرهابي على كنيستين مصريتين هذا الأسبوع موجة استنكار واسعة بين كافة المسلمين، علماء وعامة وسياسيين. وأحمد الله أنّا ما عدنا نسمع أحداً يرحب بهذه الجرائم أو يبررها. وهذا تطور طيب.
وسط بيانات الاستنكار، لفت نظري الاستعمال المتكرر لمصطلحات مثل «مستأمنين» و«ذميين» و«أهل الكتاب» في وصف المواطنين الأقباط، الذين وقعوا ضحية للهجوم الغادر. ومثل هذه المصطلحات ترد عادة في أحاديث رجال دين، تأكيداً على حرمة العدوان على غير المسلمين.
تلك التعابير ليست إطلاقات لغوية محايدة، بل «حقائق شرعية» حسب عرف الراديكاليين، أي مصطلحات خاصة ذات محمول محدد. وتقال في سياق الكلام، بقصد الإشارة إلى جملة علائق وأحكام، أو وحدة مفهومية، تصف قيمة الأشخاص المعنيين وموقعهم بالنسبة للمتحدث.
هذه الأوصاف مستمدة من الفهم الفقهي للواقع. لكنها خاطئة في المنظور الواقعي المعاصر. هذا يشير إذن إلى تباين بين الفهم الفقهي للواقع وبين الواقع نفسه. ومن حيث التصنيف فهي تنتمي إلى مرحلة تاريخية سابقة، الأمر الذي يكشف عن سبب التباين.
ولدت تلك الأوصاف في مرحلة نهوض الدولة الإسلامية، حين كانت جيوشها تتوسع في البلدان، فتكبر الدولة وتنمو معها علاقات المسلمين بغيرهم. كان ضرورياً يومها تنظيم العلاقة بين القوة الكبرى المنتصرة ورجالها الأقوياء، وبين الأفراد والمجتمعات الضعيفة التي خضعت لها رغبة أو كرهاً. ضمن هذا الظرف الخاص، كان مضمون هذه العبارات هو التأكيد على الولاية السياسية ومسؤولية الدولة عن كل رعاياها، كقاعدة عمل موازية لولاية الإيمان، التي تشير إلى تعاضد أهل الإسلام فيما بينهم.
مع مرور الزمن وهيمنة التفكير الفقهي على الثقافة العامة، تحوّل الانتماء الديني إلى مضمون وحيد للرابطة الاجتماعية دون أن يفطن هذا التفكير إلى المراحل التاريخية الفاصلة. ومع أن فكرة الحماية والضمان، بقيت مركزية في تحديد العلاقة مع غير المسلم، إلا أنه لم يعتبر شريكاً متساوياً في كافة الحقوق، أو «مواطناً» بحسب المفهوم الحديث.
انتقلت هذه المقاربة إلى الفقه الإسلامي المعاصر. وتكفي نظرة سريعة على كثير مما كتبه الفقهاء والكتاب الإسلاميون المعاصرون حول الموضوع، كي تكتشف المشكلة التي واجهوها، حين أرادوا وضع تصور يتلاءم مع الموروث الديني «الفقي» من جهة، ومع المبادئ السياسية والقانونية وحقوق الإنسان من جهة ثانية، ومبادئ العدالة من جهة ثالثة.
والحق أنه لا مجال لتسوية الإشكال. الدولة الحديثة تنتمي لعالم مفهومي مختلف عن ذلك الذي كان قائماً في عصر الدولة الإسلامية السالفة. أي إنها موضوع مختلف، لا يمكن فهمه وفق المنظور الفقهي القديم، ولا التكييفات والأحكام التي استعملت فيه. علاقة الدولة الحديثة برعاياها قائمة على مبدأ المواطنة، الذي يعني تساوي جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، أيا كانت أديانهم وانتماءاتهم الاجتماعية. كل مواطن شريك في ملكية تراب وطنه. وهو يستمد حقوقه المدنية من هذه الملكية، وليس من انتمائه الديني. ومن هنا فليس في عالم اليوم من يصحّ وصفه بالذمي والمستأمن. المواطن مواطن فقط وفقط.
بالنسبة لعامة الناس فإن هذه النتيجة لا تحمل أي جديد. لكني أردتها مناسبة لتنبيه أهل الفقه وطلابه إلى التباين القائم بين التفكير الموروث، وبين واقع الحال في عالم اليوم. إنها دعوة للتحرر من المفاهيم القديمة، التي ما عادت مفيدة أو واقعية. دعوة لتوجيه الذهن إلى العالم الواقعي والتكيف معه، بدل حصره في عالم الأوراق والكتب القديمة وأخذها على علاتها..