إياد أبو شقرا

بالأمس، ألغى الحِداد على ضحايا تفجيري كنيستي طنطا والإسكندرية احتفالات أقباط مصر بإحدى أعظم مناسباتهم الدينية. وفي العراق رسم النزف الديني والطائفي خرائط جديدة تتقلص فيها الأقليات، ويتغير فيها النسيج السكاني في مناطق كثيرة من البلاد بين «مطرقة» إيران و«سندان» داعش. وفي سوريا دخلت بقاياها الجريحة نفقَ التقسيم والتبادل السكاني علناً وبرعاية دولية. وحتماً، لا حاجة إلى التوقف طويلاً أمام ما حدث ويحدث في الأراضي الفلسطينية.


وسط هذا الجو الإقليمي المؤلم، غدا الجدل حول قانون الانتخابات في لبنان موضوعاً للتندّر، يشبه في ذلك «زحمة» المرشحين في انتخابات إيران، حيث لا تعني صناديق الاقتراع، ولا كثرة المرشحين، الكثير أمام كلمة المرشد الأعلى ومشيئة الحرس الثوري.
في لبنان، الخاصرة «الديمقراطية» الرخوة للمنطقة، ينام اللبنانيون ويستفيقون على نقاشات واجتهادات ومماحكات تتعلق بأفضل قانون يمكن اعتماده للانتخابات النيابية المقبلة. الجدل ليس جديداً. والنيات خلف المماحكات غير ما تعبّر عنه التصريحات، التصعيدية منها والمنافقة. والمشكلة هنا أن اللبنانيين مختلفون في العُمق على قضايا أساسية عدة متصلة بمقوّمات التعايش ومعايير التمثيل، ناهيك من معنى الديمقراطية.
بداية، يقتضي المنطق أن يتساءل المراقب... هل ستُنتج الانتخابات – بصرف النظر عن النظام المعتمَد – أي تغيير جوهري في الأمر الواقع؟ هل ثمة رؤية لبنانية مُشترَكة لهوية البلد بين مَن يَبدون «حلفاء» – ظاهرياً على الأقل – فما بالك بين الخصوم السياسيين والنافخين في نار الاستقواء الإقليمي والهيمنة الطائفية؟
هل ظلَّ هناك معنى لمؤسسات الدولة في ظلِّ الاختلال الفظيع في آليات عملها؟ وهل يؤثر أي قانون انتخابي في التفاوت السكاني المتسارع واحتكار فئة مذهبية واحدة القدرات القتالية خارج الدولة... بينما تحتفظ بنصيبها الكبير بداخلها أيضاً؟
بالأمس، قال البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي في كلمته بمناسبة الفصح «المسيحيون ليسوا مَكسَر عصا – أي ليسوا (مَلطشة) – لأحد، وضرورة لا غنى عنها». هذا كلام «كبير» مع أنه ليس جديداً. فما هو معروف عن البطريرك قبل تسنّمه منصبه الرفيع أنه شغوفٌ بالسياسة، وأن مواقفه السياسية صريحة وقاطعة. وبما يخصّ الانتفاضة السورية، بالذات، كان في طليعة مَن حذّر الغرب – ولا سيما خلال جولاته الخارجية بدءاً بفرنسا – من أن أي بديل لبشار الأسد قد يكون أسوأ منه؛ ما يعني أنه من الأفضل الإبقاء عليه.
وفي الاتجاه نفسه، سار الرئيس اللبناني الحالي ميشال عون، الذي تبنى «حزب الله» ترشّحه للرئاسة وقاتل بعناد من أجل فرضه رئيساً، فشلّ الحياة السياسية في لبنان لمدة تربو على السنتين. وبطبيعة الحال، كان «حزب الله» في هذه الأثناء يهيمن في لبنان ويقاتل دفاعاً عن الأسد في سوريا ويدرّب الحوثيين في اليمن باسم المشروع الإقليمي الإيراني. وهو مشروع «تروّج له» طهران للغرب والعالم باسم «مكافحة الإرهاب» – الإسلامي السنّي، طبعاً – و«حماية الأقليات» في إطار «تحالف أقليات» تكتيكي.
عون قال بالأمس أيضاً خلال لقاء إن «ما يجري في الشرق غايته إفراغه من المسيحيين وتقسيم المنطقة إلى دويلات عدة». أيضاً هذا الكلام ليس جديداً، وكان يُقال على حواجز الخطف والقتل على الهوية إبّان الأيام السوداء للحرب اللبنانية بين 1975 و1990. يومذاك كانت هواجس التهجير ومَن سيُهجِّر مَن... مسألة مألوفة ومتداولة، وبلغت أوجَها بالنسبة للمسيحيين مع إشاعات مهمة الدبلوماسي الأميركي دين براون لإجلاء المسيحيين إلى كندا، وإبّان حرب الجبل عندما شاعت بين الدروز وجود نية لطردهم إلى حوران بجنوب سوريا.
غير أن عون بكلامه لم يتنبّه، على الأرجح، إلى هوية مَن يضعون اللمسات الأخيرة على التبادل السكاني ورسم خرائط «الدويلات» المستقبلية التي يحذّر منها. لقد أغفل الرئيس اللبناني المشهد العام واختار ترداد كلام يبرّر غايات آنية... تسيء إلى الأقليات، بل تهدّد وجودها، أكثر مما تفيدها وتساعد على حمايتها...
في هذا السياق، نصل إلى محاولات التذاكي والابتزاز في صياغة قانون انتخابات يستند إلى الابتزاز أو التحايل، وكأن زعماء «العشائر الطائفية» طارئون على سياسات بلدهم. وكانت أحدث المحاولات قول جبران باسيل، وزير الخارجية وصهر الرئيس، إنه «مستعد للبحث في تأسيس مجلس شيوخ، شرط أن تسند رئاسته إلى مسيحي»! وهذا شرط تحفّظ عنه رئيس مجلس النواب نبيه برّي من منطلق أن اقتراح مجلس الشيوخ الذي أقرّه «اتفاق الطائف» – الذي هو اليوم في صلب الدستور اللبناني – يعطي «الاتفاق» رئاسته للموحّدين الدروز. وبالتالي، فإن «شرط» باسيل يخالف الدستور.
جدير بالذكر، أن كل المقترحات التي جرى تداولها، بمختلف الأشكال والأنواع، لقانون الانتخابات العتيد في لبنان تجاهلت مجلس الشيوخ. كذلك، كانت واضحة محاولة الهرب من موضوع آخر نصّ عليه الدستور وفق «اتفاق الطائف» هو «اللامركزية الموسّعة». ولكن لئن كانت بعض القوى في لبنان تتعامل بحذر مع فكرة «اللامركزية»، وبالأخصّ، في ظل سير العراق وسوريا باتجاه التقسيم الفعلي، ما عاد ممكناً فصل واقع لبنان السياسي عن واقعه الديموغرافي.
ثم إن هذا الواقع بات معرّضاً للتأثر بمتغيّرات مهمة وبعيدة الأثر عبر حدود لبنان الشرقية المُتلاشية مع سوريا. من هذه المتغيرات ما يُحكى ولا يُنفى عن عمليات توطين وتجنيس واسعة تجري في العاصمة دمشق وريفها. ثم، إذا ما أُنجز مشروع التبادل السكاني المذهبي بين «الجيوب» الشيعية في شمال سوريا بدءاً ببلدتي الفوعة وكفريا مع الغالبية السنّية في وادي بردى بمحافظة ريف دمشق، فإن التغيير الديموغرافي والمذهبي في دمشق وريفها سيتّصل بعمق ديموغرافي ومذهبي مماثل في لبنان.
هذا الأمر يحتاج من المسيحيين اللبنانيين، بل جميع اللبنانيين، وكذلك جميع السوريين والعراقيين والعرب، إلى التحلّي بالوعي والصدق؛ إذ إن تكلفة تجاهل الحقائق مأساوية، والدم يجرّ الدم والإلغاء يسوّغ الإلغاء، والتهميش ينسف مقوّمات التعايش.
إن بناء الأوطان مستحيل في ظل انعدام الرغبة الصادقة بالعيش المشترك لا التكاذب المشترك... بينما ينتظر «المتذاكون» تغيّر المعادلات الإقليمية والدولية..