رائد جبر 

لم يظهر الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف خلال العامين الأخيرين، إلا «مبشّراً» بـ «حرب باردة جديدة»، أو محذّراً من انزلاق الوضع نحو «حرب ساخنة».

والرجل الذي قضى ربع القرن الأخير، يدفع عن نفسه تهمة «خيانة مصالح» بلاده، والتسبُّب بتدمير القوة العظمى في السابق، ظهر بعد يومين فقط على زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون لموسكو، ليقول إنه «يرصد مؤشرات اندلاع الحرب الباردة الجديدة». ويرى في تكثيف الحشود العسكرية في أوروبا وتدهور العلاقات بين الدول، وتنامي سياسات المحاور والأحلاف، إشارات سلبية إلى دخول العالم في نفق مواجهة، باتت قوات الخصمين الرئيسيين فيها (روسيا والولايات المتحدة) «تقف أنفاً لأنف».

يختلف هذا المنطق «التحذيري» عن اللغة التي يتحدث بها وزير الخارجية سيرغي لافروف. وعلى رغم أن عبارات ثعلب السياسة الروسية توحي أيضاً بمنطق المواجهة، لكنه يصرّ على إضفاء نوع من «نشوة الانتصار» على كلماته. وعندما كان لافروف يتحدث بعد يوم على زيارة تيلرسون، أمام اجتماع للديبلوماسيين الروس، قال إن مشكلة الغرب عموماً وواشنطن خصوصاً تكمن في النزوع نحو «إنكار الواقع»، لأن «الطرف الآخر لا يريد أن يقتنع بأنه «خسر قيادة العالم». وزاد: «عليهم (في الغرب) أن يقتنعوا بالأمر الواقع الجديد على رغم مرارته... اعتادوا لقرون أن يحتفظوا بمواقع القيادة، ولا يريدون الاعتراف بأن العالم تغيّر وبات متعدّد الأقطاب».

تعكس هذه العبارات الفهم الروسي للعلاقات القائمة الآن على المسرح الدولي. وبهذا المنطق اعتبرت موسكو أن المحادثات مع واشنطن يجب أن تنطلق من فكرة الإقرار بالمتغيّرات على المسرح الدولي، و «استعادة روسيا مكانة القوة العظمى في العالم»، ما يعني أن أي تسوية مقترحة لمشكلة إقليمية ودولية لا تراعي هذا التطور، لن يُكتب لها النجاح.

أظهرت نتائج زيارة تيلرسون موسكو أن الآمال التي علّقتها روسيا على إدارة ترامب بتفهُّم الحاجة الروسية لعلاقات تقوم على الندّية، لم تنعكس تطبيقاً عملياً. حتى «العرض- الصفقة» الذي تسرّب بعض تفاصيله إلى وسائل الإعلام، بدا غير مقنع لموسكو لأنه يفتقد العنصر الرئيس. فالمطلوب ليس إشارات فوقية إلى «احترام مصالح روسيا» بل الإقرار بشراكة كاملة في كل الملفات الإقليمية والدولية، وهذا لا تبدو واشنطن بعد مستعدة لتقديمه إلى الروس.

لكن روسيا التي تُمسِك مباشرة بعدد من مفاتيح الملفات الإقليمية وعلى رأسها سورية «مستعدة للانتظار»، كما قال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أخيراً، موضحاً أن الساعات الطويلة التي قضاها تيلرسون مع لافروف ثم مع الرئيس فلاديمير بوتين، لم تكن كافية لأن تصل إلى الروس الرسالة الأساسية. وتابع أن روسيا «لا تفهم حتى الآن رؤية الإدارة الأميركية الجديدة، وعملية تشكيل هذه الإدارة لم تنتهِ بعد... بوتين صبور بما فيه الكفاية، لذلك هو مستعد للانتظار، حتى اتضاح هذه الرؤية».

تنتظر موسكو إذاً «اتضاح الرؤية» لدى واشنطن، ووضع خريطة جدّية للشراكة، أما «العدوان الأميركي على سورية» ومتطلّبات التصدّي له، والتلويح بالحروب الباردة والساخنة، وحشد القوى في مجلس الأمن وخارجه، فهذه كلها تفاصيل.

الصفقة المقترحة حتى الآن مرفوضة، لأن الثقة الغائبة تمنع التوصُّل إلى ضمانات كافية في شأنها، ولأنها افتقدت فكرة أساسية هي الشمولية. لا صفقة في سورية وحدها، ولا اتفاق جزئياً. إما شريك كامل وإما «ننتظر والصبر من صفات بوتين الحميدة».