حمد العامر 

شبه عراب السياسة وأمير الدبلوماسية العربية المغفور له الأمير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية (منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية) ب (الوقت) الذي يسير دائما إلى الأمام، فلا مجال لتراجع هذه المسيرة المباركة إلى الخلف،

وكان رحمه الله محقا فيما ذهب إليه، فمجلس التعاون يعتبر أهم وأنجح تجربة عربية أكدت استقلال دول مجلس التعاون ووحدتها الوطنية وحفظت دورها الإقليمي والدولي، ومكنت دوله من مواجهة التهديدات المحدقة من كل جانب، فهو طوق النجاة وحامي المصير المشترك، خاصة بعد إقرار رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود خلال قمة (ديسمبر 2015م) لتسريع الإجراءات المتعلقة بالانتقال من (مرحلة التعاون) إلى (مرحلة الاتحاد) الذي نصت عليه المادة الرابعة من النظام الأساسي للمجلس. 

ومن خلال قراءتي في التاريخ الأوروبي، وجدت بأن (إمارات الساحل العربي المتصالح) والمطلة جميعها على السواحل الجنوبية للخليج العربي مرت بظروف مشابهة تماما للظروف التي مرت بها الدول الأوروبية ودفعتها للتفكير في إنشاء الاتحاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية.

ففي أوروبا، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في (أكتوبر 1945م) تشكلت (منظمة حلف شمال الأطلسي)، ثم (المجموعة الأوروبية للفحم والصلب) بموجب معاهدة باريس التي شكلت نواة لقيام (المجموعة الاقتصادية الأوروبية)، ومن ثم (الاتحاد الأوروبي) الذي بدأ عام 1951 بست دول ليصل إلى (27 دولة) عام 2007 بما فيها دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، واتخذ من العاصمة البلجيكية (بروكسل) مقرا دائما لأمانته العامة، ليحتفل القادة الأوروبيون في نهاية (مارس 2017م) بالذكرى الستين لتوقيع المعاهدة التاريخية التي كانت نواة الاتحاد وهي (معاهدة روما)، وبموجبها تم إنشاء (السوق الأوروبية المشتركة للحديد والفحم) بهدف الوقوف أمام الند الأمريكي بعد الانتصار في الحرب العالمية والتداعيات السلبية لذلك على سيادة واستقلال واقتصاد الدول الأوروبية. 

بينما شهدت منطقة الخليج هيمنة سياسية بريطانية تولت إدارة العلاقات الخارجية للمشيخات بموجب المعاهدة العامة للسلام بين حكام الخليج والإمبراطورية البريطانية عام (1820م) والتي أشرفت على تطبيق أحكامها وأهدافها (شركة الهند الشرقية) تحت غطاء حفظ الأمن والسلام في الخليج العربي وعدم مهاجمة السفن البريطانية، ليخلق الانسحاب البريطاني من المنطقة في (30 نوفمبر 1971م) أجواء مشحونة بالتوتر والقلق، خاصة بعد ظهور النفط وتحول الخليج العربي إلى محط أنظار وأطماع الدول الكبرى في العالم نظرا لمركزه الاستراتيجي في طريق الملاحة التجارية الدولية وما يملكه من ثروة نفطية طائلة، وتجدد المطالب الإيرانية بالبحرين، واحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، ما دفع أمراء وشيوخ الإمارات المستقلة عام (1971م) والتي دخلت في عضوية الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية للبحث عن آليات جديدة لبناء هيكل آمن وجديد للأمن الخليجي، فكان (الاتحاد التساعي) الذي سقط بسبب التهديدات الإيرانية الشاهنشاهية في السبعينيات كمرحلة أولى، ليأتي بعده تأسيس (مجلس التعاون لدول الخليج العربية) في (25 مايو 1981م)، والذي كان صاحب فكرته المغفور له سمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، ليشكل ترجمة واقعية لحالة أمنية خطيرة جدا على كيانات واستقلال دول مجلس التعاون.

وعند القراءة السريعة لتاريخ الخليج الحديث، نجد أنه شهد أحداثا سياسية وأمنية خطيرة خلال العقود الثلاث الأخيرة، يمكن إيجازها في الآتي:

• سقوط نظام الشاه ونجاح (آية الله الخميني) في تأسيس (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) عام (1979م) كأول دولة شيعية في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط الدولة الفاطمية الشيعية في مصر عام (1171م).

• قيام (حرب الخليج الأولى) بين العراق وإيران التي أشعلت المنطقة واستمرت من (سبتمبر 1980م) حتى (أغسطس 1988م)، شعر خلالها الرئيس العراقي السابق صدام حسين بأنه أصبح زعيم الأمة العربية خصوصا بعد (معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية) التي تم توقيعها في (مارس 1979م).

• قيام (حرب الخليج الثانية) باحتلال عراقي غاشم للأراضي الكويتية استمرت من (2 أغسطس 1990م) حتى (28 فبراير 1991م).

• قيام (حرب الخليج الثالثة) التي احتلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية الأراضي العراقية بتخطيط دقيق ومحكم في (20 مارس 2003م) وانتهت بشكل رسمي في (15 ديسمبر 2011م)، وتم خلالها (تقديم العراق على طبق من ذهب لإيران) كما قال المغفور له الأمير سعود الفيصل، لتعيث به فسادا بإشعال النعرات الطائفية ودعم وتمويل الإرهابيين، لتتم بذلك المرحلة الأولى من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة.

كما أن الأحداث العالمية لم تكن بعيدة التأثير على منطقة الخليج العربي، خصوصا بعد اتخاذ الولايات المتحدة الأمريكية من هجمات (سبتمبر 2001م) ذريعة لإحكام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، بتنفيذ خطة (الثورة الخلاقة) لتشكيل (الشرق الأوسط الجديد) كردة فعل مباشرة على ذلك الهجوم الإرهابي، واستبدال (الأنظمة العربية القائمة) باعتبارها سببا مباشرا لأعمال العنف والإرهاب والتطرف الذي يهدد الأمن القومي الأمريكي والعالم (بأنظمة تعددية ديمقراطية)، واستغلال شعارات حقوق الإنسان وحرية التعبير كمدخل مشرع الأبواب للتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وإحداث التغيير المطلوب، وبروز التنظيمات الإرهابية وازدياد قوتها وتحكمها بتأجيج الطائفية في الوطن العربي.

وجميع تلك الحروب المؤسفة أنهكت اقتصاد المنطقة، لما استدعته الحاجة لصرف مبالغ طائلة في تلك الأحداث، لو صرف أقل من نصفها على التنمية الاقتصادية وتطوير البنى التحتية وتمويل خطط التنمية الجماعية مع دول الجوار الإقليمي لأمكن تجنب تلك الحروب، ولتحققت خطوات إيجابية لتثبيت الأمن والاستقرار في المنطقة وإقامة علاقات حسن جوار ومنع التدخل في شؤونها الداخلية، وضمان مصالح كافة الأطراف تحت مظلة العيش المشترك والتعاون الوثيق التي ستنهي بلا أدنى شك حقبة تاريخية من الأطماع والصراعات، ليشابه ذلك الوضع المأمول الحال الذي وصلت إليه دول الاتحاد الأوروبي التي أنهت بقيام الاتحاد حقبة من الحروب والدماء وأغلقت صفحاتها للأبد لتبدأ حركة التغيير التاريخي المتجه بجدية وحماس للمستقبل عبر النظر إلى الأمام المشرق.

وفي هذا الإطار، ومن واقع خبرتي العملية في العمل السياسي والدبلوماسي الذي بدأته منذ الثمانينيات في فترة دقيقة جدا من تاريخ الخليج العربي، سفيرا لدول مجلس التعاون لدى الاتحاد الأوروبي في مملكة بلجيكا (2002م وحتى 2008م)، ومن ثم تعييني وكيلا لوزارة خارجية مملكة البحرين ومسؤولا مسؤولية مباشرة عن مجلس التعاون وعلاقاته الإقليمية والدولية في الفترة من (2009م حتى مارس 2015م) أعددت دراسة -بزغت فكرتها الأولى منذ عام (2004م)- وأجد أنه حان الوقت لنشرها، خصوصا وأنها تتناول العديد من المحاور المتعلقة بالسبل الكفيلة بتطوير منظومة مجلس التعاون الخليجي واندماج دوله وتكاملها، وأسس تعامله مع الواقع السياسي والأمني العالمي والإقليمي، وضرورة توسيع مهام وصلاحيات الأمانة العامة، وإنشاء منطقة رخاء اقتصادي واجتماعي مشترك مع دول الجوار الإقليمي.

وقد اعتمدت في إعدادها على مراجع مهمة منها: رؤى أصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون حول تطوير وتفعيل المجلس التعاون وأداء أجهزته، وملفات الأمانة العامة، والاتفاقيات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، ومعاهدة لشبونة التي وقعها قادة الاتحاد الأوروبي عام (2007م) بهدف إصلاح مؤسسات الاتحاد الأوروبي وتفعيل عملية صنع القرار فيه، وسوف أتناول في مقال الأسبوع المقبل أسس حركة التغيير الخليجي التاريخي إلى الامام.