صالح القلاب

أخذ البعض، وما زالوا يأخذون، على القيادة الكردية؛ ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني، إثارتها مسألة «الاستفتاء» على تقرير المصير و«الاستقلال» لإقليم كردستان العراق الذي يتمتع الآن، في حقيقة الأمر، بما هو أكثر من الحكم الذاتي، كما يأخذون على هذه القيادة إصرارها على رفع العلم الكردي فوق المباني الحكومية في كركوك إلى جانب العلم العراقي الرسمي، كل هذا بينما حرب المواجهات مع تنظيم داعش الإرهابي في الموصل لا تزال في ذروة احتدامها، وبينما تشهد هذه المنطقة كلها حالة عدم استقرار لا تزال مفتوحة على شتى الاحتمالات.

والواضح أن الضغوطات التي مورست على القيادة الكردية، الممثلة بحكومة أربيل وبالرئيس مسعود بارزاني الذي ورث عن أبيه الملا مصطفى بارزاني مسؤولية حمل راية كفاح هذا الشعب من أجل أخذ مكانة تحت الشمس مثله مثل الشعوب الأخرى في هذه المنطقة، جعلتها تلجأ إلى تهدئة الأمور، التي كانت وصلت إلى ذروتها مع الحكومة العراقية، وتؤجل إجراء استفتاء داخلي في إقليم كردستان العراق على استقلال هذا الإقليم، لكن لا يمكن الجزم بأن هذا سيحصل بالفعل، مع أن موعد هذا الاستفتاء قد تم تحديده «مبدئياً» في فترة قريبة.
ولعل ما تجب الإشارة إليه، وهذه مسألة تاريخية، أن إيران تعرف أن «استقلال» إقليم كردستان العراق عن الدولة العراقية وعن الوطن العراقي، الذي رسمت حدوده بعد الحرب العالمية الأولى، سيؤدي تلقائياً إلى انتقال العدوى الاستقلالية إلى أكراد إيران الذين كانوا ذاقوا حلاوة قيام دولتهم الوطنية (جمهورية مهاباد) في عام 1946، وذلك مع أن هذه الجمهورية كانت نتاج أزمة بين السوفيات والأميركيين على إيران التي لم يستطع الشاه رضا بهلوي تجنيبها ويلات الصراع بين هاتين الكتلتين الرئيسيتين اللتين خاضتا معاً حرب المواجهة مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
إن هذه الدولة (جمهورية مهاباد)، التي هي أول دولة يقيمها الأكراد، واعتبرت «دولة قومية»، لم تدم إلا قرابة أحد عشر شهراً، حيث تم إعدام رئيسها قاضي محمد بصورة في غاية الحقد والانتقام والبشاعة، وتم إلزام قائدها العسكري الملا مصطفى بارزاني باللجوء إلى الاتحاد السوفياتي وقضاء فترة صعبة هناك في هذا المنفى الذي كان بمثابة سجن فعلي وحقيقي له ولمن رافقه في تلك التجربة القاسية التي عاد بعدها إلى العراق ليبدأ مرحلة كفاح وطني جديدة.
لكن، ومع ذلك، فإن الإيرانيين بقوا يخشون من «مهاباد» ثانية، وبقوا يحرصون على ألا يحقق الأكراد أي إنجاز «استقلالي»؛ لا في تركيا، ولا في سوريا، وبالطبع ولا في كردستان العراق، ولذلك فإنه ليس مستبعداً فقط؛ بل مؤكد أنهم وراء رد الحكومة العراقية العنيف على رفع العلم الكردي فوق المباني الحكومية في كركوك، وأنهم أيضاً وراء إذكاء نيران الفتنة بين أربيل والسليمانية، حيث إن مشكلة الأكراد الحقيقية أنهم بقوا يتعرضون لتأثيرات القوى الإقليمية على أوضاعهم الداخلية، وهذا في حقيقة الأمر بقي مستمراً منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، بعد اتفاقية «سايكس - بيكو»، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية... وحتى الآن.
وهكذا، ومع أن «كاك» هوشيار زيباري قد أكد أن ما يجري في إقليم كردستان العراق لا علاقة له بأكراد إيران، ولا بأكراد تركيا، وأكراد سوريا أيضاً، فإن الضجة الإقليمية على خطوة رفع العلم الكردي فوق الأبنية الحكومية في كركوك لا تزال مستمرة ومتواصلة، وإن الرفض الجدي لتوجهات الأكراد العراقيين الاستقلالية سيتواصل وسيستمر من كل هذه الدول الإقليمية، بخاصة الدولة الإيرانية، التي من المعروف أنها تتشكل من «فسيفساء» قومية تضم - بالإضافة إلى الكرد الذين يبدو أنهم جادون في استئناف ثورتهم المسلحة - البلوش والعرب وأيضاً الأذريين الذين يشكلون الأكثرية في هذا البلد الذي يعتقد بعض المراقبين عن بُعد أنه بأكثرية فارسية.
وهنا، وبينما تثار كل هذه الضجة على توجهات إقليم كردستان العراق «الاستقلالية»، التي يقول «كاك» هوشيار زيباري إنها لا تعني الانفصال عن الدولة العراقية الاتحادية!! تجب الإشارة إلى أنه قد مر قرن بأكمله على انهيار الدولة العثمانية، التي بقيت تجمع العرب والأكراد وكثيراً من القوميات و«الإثنيات» الأخرى، وإلى جانبها طوائف دينية ومذهبية كثيرة، حتى الحرب العالمية الأولى، وعلى إبرام اتفاقية «سايكس - بيكو» المعروفة والشهيرة والتي مزقت هذه المنطقة وحولتها إلى كيانات مصطنعة وفقاً لمصالح الدولتين المعنيتين في ذلك الحين؛ فرنسا وبريطانيا العظمى.
ويقيناً، إننا إذا دققنا فيما يجري الآن من حروب وويلات وتصدعات في هذا الجزء من الشرق الأوسط، فإننا نجد أن هذه الاتفاقيات هي أساس البلاء، بإنشائها هذه الكيانات التي معظمها مصطنع وغير قائم لا على التوازنات السكانية ولا التوازنات القومية والمذهبية والدينية.
لقد أصبحت هناك، وفقاً لـ«مسطرة» وزير الخارجية البريطاني ووزير الخارجية الفرنسي، كل هذه الدول العربية التي بات بعضها يشهد كل هذه الانفجارات المدمرة، والتي غير معروف على أي أوضاع ستستقر، كل هذا بينما الأكراد وحدهم قد حُرموا من أي كيان وطني؛ أكان صغيراً أمْ كبيراً، وذلك مع أنهم يشكلون القومية الرابعة إلى جانب القومية العربية والقومية التركية والقومية الإيرانية أو «الفارسية»... وحقيقة أن هذا ظلم تاريخي ما بعده ظلم، قد جعلت هؤلاء «الأشقاء» يشكلون عوامل عدم استقرار في كل الدول وهذه الكيانات التي ألحقوا بها عنوة وخلافاً لتوجهاتهم الوطنية والقومية.
تقول التقديرات المتداولة، المرفوضة من كل الدول المعنية، إن عدد الأكراد في إيران قد تجاوز 12 مليوناً، وإن عددهم في تركيا قد اقترب من 16 مليوناً، كل هذا بينما أكراد شمال العراق قد تجاوز عددهم 4 ملايين، وأكراد سوريا غير معروفة أعدادهم، على اعتبار أنهم يتوزعون، تاريخياً، في كل المدن والمناطق السورية، وأنهم، باستثناء الموجودين في المناطق الحدودية مع تركيا، قد اندمجوا مع أشقائهم العرب سياسياً وحزبياً وحياةً اجتماعية، ووصل كثير منهم إلى المواقع الرئيسية الرسمية التي من بينها رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء وقيادات الجيش... وكل شيء.
إن الأكراد لا يطالبون؛ بل ولا يفكرون، الآن في الدولة القومية التي ينضوون كلهم في إطارها، كما يطالب العرب وما زالوا يتطلعون لإقامة دولتهم القومية الواحدة، فهذه مسألة يرون أنها على المدى القريب مستحيلة وغير ممكنة، لكن هذا يجب ألا يعني أنهم سيبقون على وضعية ما رسمته مسطرة «سايكس وبيكو» وما ترتب أيضاً على انهيار الدولة العثمانية، بخاصة أن هناك رفضاً من قبل البعض للاعتراف بوجودهم؛ لا كشعب، أو كأمة، أو حتى كحقوق، وهذا من غير الممكن أن يستمر بعد كل هذه السنوات الطويلة.
والأسوأ في هذا كله أن هناك من يواصل استخدام أبناء هذا الشعب، الذي لا يجوز استمرار حرمانه مما يتمتع به العرب والأتراك والإيرانيون (الفرس)، وقوداً في صراعات هذه المنطقة الملتهبة، مما سيجعلهم، في هذه الدول كلها، عامل عدم استقرار وعلى غرار ما يجري الآن في كل المناطق الحدودية الإيرانية والعراقية والتركية والسورية، ثم، وفي النهاية، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن المشكلة التي تسبب للأكراد كل هذا الذي يعانون منه، هي أن مناطقهم، وفي كل الدول التي أصبحوا جزءاً منها، مناطق بترولية رئيسية واستراتيجية.. .